/ صخرة مسخّرة

القائمة الرئيسية

الصفحات

 

صخرة مسخّرة

قلم: أحمد بلقمري

الشيخ عبد الحميد ابن باديس



في لَيْلَة مِنْ لَيَاليِ القُرِّ داجيَة من عام 1926، دخل سي مصطفى الدّار مُلتحِطًا وحزينا مُرتعشا، أسرعت إليه زوجته الطّاوس، وسألته عن حاله فأجابها بعدما تنهّد بعمق:

-سيدي الحاج، سيدي الحاج!.

تَسَمَّرَت الطاوس فِي مَكَانِها من هول ما سمعت، سحبت شالها، أمسكت يد سي مصطفى وقالت:

-"واش به، سيدي الحاج، واش به؟. اهدر، اتكلم؟"؟.

-"غدروه، الله يغدرهم، حبوا يقتلوه، وربي بقى السّتر!".

اِسْتَجْمَعَ سي مصطفى أَفْكَارَهُ بسرعة، طوّق كتفي زوجته بذراعه وقال:

"كان سيدي الحاج مروح للدار كيما العادة بعدما قرّى وصلّى العشاء في جامع سيدي قموش، وعند الهبطة نتاع مايو، خرجلوا وحد الكلب، وضربه بعصا، قاسوا في راسه، ساح دمه على وجهه الطاهر وبرنوسه الأبيض.. الملعون جبدلوا الموس.. الحمد لله سبقت رحمة ربي، الحمد لله!".

استندت الطّاوس على الحائط النّدي بصعوبة، كان كلّ شيء يبدو مُعتِّمًا من حولها، فصورة المعلّم ووجهه يقطر دما لم تفارقها، لم تستطع الطّاوس أن توقف رغبة البكاء بداخلها، بكت سيدي الحاج أمام زوجها الذي راحت تحثّه على الكلام:

-"هيه، ومن بعد؟".

قال سي مصطفى وهو يرفع رأسه بحركة مفاجئة:

-"لا من بعد، ولا من قبل.. سيدي الحاج قاوم بشجاعة حتى جاو الخاوة وحكموا الخبيث، وساقوه لمركز الشرطة. ظهر عليوي الكلب!".

في الصّباح، انتشر الخبر في قسنطينة كالنَّارُ فِي الْهَشِيمِ، تجمّع الناس أمام بيت الشّيخ ابن باديس بعدما تناهت قصة الاعتداء عليه إلى أسماعهم، واتّقدت فيهم نيران الشّوق للحبيب العالم الذي عرفوه وصدّقوه فكيف بهم يصبرون إذ أصابه مكروه. الغدر بشيخ قسنطينة الأوّل لم يكن منتظرا ولا متوقعا، لكنه حدث!. هكذا هي الدنيا، قد ندرك فجأة أن الحياة قصيرة، وأن الإنسان سيغادرها يوما كمن يغادر الشّاطئ إلى البحر.

في البداية حدث نوع من الشّجار، تدافع النّاس وحاولوا دخول منزل الشّيخ ابن باديس للاطمئنان على صحته وسلامته، لكن لم يسمح لأحد بذلك إلاّ الشّيخ محمد الصالح بن عتيق تلميذه وصاحبه، بالإضافة إلى بعض الطلبة. ولكن بعد أن فقد الجميع الأمل في رؤية شيخهم، تسلّل سي مصطفى من بين النّاس، واقترب من سي الزبير شقيق الشّيخ، حيث طلب منه أن يخبر الشّيخ أنه وعدد من الرّجال على أتمّ الاستعداد للانتقام من زمرة العليويين. 

أظهر سي مصطفى حماسا بالغا بما لا يدع مجالا للشّك، وكان في كلّ مرّة يشدّ على يد سي الزبير، ويقول: "الأولى فايتة، والثانية ثابتة!". أمّا سي الزبير، ومن أجل تفادي المزيد من الكراهية، ولأنه كان محاميا ورجل قضاء، راح يهدئ من شدّة انفعال وحدّة سي مصطفى، قائلا: "إن لم تخني ذاكرتي، العليويين دأبوا على هذا الأمر منذ زمن، وليس بمثل هذه الطريقة نسترجع حقّنا.. دع العدالة تأخذ مجراها!".

تغيّر لون سي مصطفى وتبدّلت ملامحه، وانسحب إلى الوراء بعدما تيقن تماما أن القضية ذاهبة إلى القضاء، وأنه لن يكون بإمكان تلك الجموع الغفيرة أن تأخذ القصاص من المجرمين الذين لا يستحقون الشّفقة. 

عاد سي مصطفى إلى بيته كرجل يسير إلى الوراء ليدفع شيئا إلى الأمام، من الواضح أنه لم يكن في حالة من الانشراح، كان يحدث نفسه عاجزا عن استيعاب ما حدث:

-"يضربني بهراوة، يقسملي راسي، يسيح لي دمي، يطلعني في عقبة، ونزيد نسامحه.. والله، يا الشّيخ، غير نية!".

عند سماع الطّاوس لصوت زوجها، قفزت من فراشها، اتجهت صوب زوجها الماكث قريبا من المدفأة المشتعلة بهدوء على قليل من الحطب، أخبرها بالذي حدث عند بيت الشّيخ، فكّرت لبرهة، جثّت على ركبتيها ثمّ قالت:

-"الحمد لله على سلامة سيدي الحاج، وراه خلى كلمة صحيحة العليوي ما هو غير صخرة مسخّرة!".

-تمّت-

أنت الآن في أول موضوع
هل أعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع