حفيظة درّاج:المرأة، الذّات و اللّغة
قال هيجل: " مع الوعي بالذات ها نحن في الأرض التي بها مولد الحقيقة".
بين الذّات و الموضوع ( الحبيب) تحتلّ الشّاعرة الجزائرية المبدعة حفيظة درّاج ساحات الوعي فتقدّم لنا رسالة اعتراف امرأة بخطئها، فتعبر بنا عبر ذاتها الباحثة عن الاتّحاد حدود اللّغة لتبحر بنا نحو شاطئ الكينونة و مرفأ الوجود. هذا ما وقفنا عليه ونحن نحاور نص الشاعرة الموسوم ب" رسالة اعتراف". فما الذّي احتوته رسالة اعترافها يا ترى؟..
عنونت الشاعرة نصها كالآتي: " رسالة اعتراف "، الرّسالة هي الخطاب يبعث به مُرْسِلٌ إلى مُرْسَلٍ إليه، وهي مخاطبة الآخر بلسان يفهمه عبر الكتابة أو الكلام الشفهي المسموع، و الاعتراف هو سيّد الأدلة، حيث الاعتراف هنا لم يكن بوحا شفيفا إنما اعترافا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، اعترافا جاء لإشباع رغبة لم تكتمل، هو دعوة للمحب من أجل العودة و الاتحاد، وهنا نقف على الصراع ما قبل كتابة النص الذي انتهى بتحقيق وعي الشاعرة بذاتها، الملفوظان جاءا على صيغة النكرة ليؤكدا معنى اللامحدود و اللانهاية و المطلق..
رِسَالَةُ اعتِرَافٍ..
هَا أنذا ألفظُ الضّادَ لأَجْلِك
هَا أنَذَا أقرَأُ أحْزانًا مًزّقتك
ها هنا أمام الغِفْرِ أعترف
هنا، و إن مانعت سأنصْرف
تبدأ الشاعرة خطابها باستخدام لغة قديمة تتوافق مع خطاب الاعتراف، حيث استقرأت التاريخ لتستخدم أسلوب الخطاب في سفر التثنية، إنه الاقتباس اللائق بالموضوع، استخدام أسلوب الإشارة ( ها أنذا ) يدلّ على وعي عميق باللحظة و الآنية، بالقرب و البعد، بالمعنى و اللغة.. تقول الشاعرة بأنّها تلفظ الضاد لأجل مُخاطَبِها وهي التي تنظم الشعر باللغة الفرنسية، وكأنها تحاول أن تتكلم بلغة الحبيب لتقترب أكثر منه، لتعيد الصلة و العلاقة وتمد جسر اللغة بين القلوب و الأوطان. تقول دراج بأنها تلفظ الضاد، وهي تعبر لاشعوريا عن صعوبة الحديث بغير اللغة التي ألفتها، فعل اللفظ لا يعني الإخراج للكره، و لكن التلفظ الذي دعا إليه الصراع من أجل إشباع الرغبة و الاتصال بالآخر انطلاقا من الداخل إلى الخارج رغم الألم و المعاناة. ( ها أنذا أقرأ أحزانا مزّقتك ) تعود بنا الشاعرة إلى اللحظة الأولى نقطة البداية وكأنها تؤكد معنى الاستناد و الاقتباس و الارتكاز على سفر التثنية في كتابة نصها فتحيلنا إلى رسم صورة واضحة عن اقترابها من أحزان الحبيب عبر القراءة، الأحزان التي مزّقت ذات الحبيب وتكاد تعصف بهويّته، ثم تأتي الشاعرة لتتحدث عن الغفر و الاعتراف وليس البوح فحسب، تنتقل صاحبة النص من استخدام زمن المحاضر في الخطاب إلى الحديث عن المكان-الأرض (هنا)، أين يتحد الزمان بالمكان أمام الغفر الذي هو جمهور الناس و الغفران هو النسيان الكامل للخطأ حيث الغفران هو عملية المحو الروحي دون إمكانية استرجاع الأشياء، و الغفر هو أيضا البطن من القبيلة، إنه الاعتراف الأكثر جرأة و الأكثر مفاجأة أمام كل الناس، إنها لحظة الحقيقة، كما قال هيجل: " مع الوعي بالذات ها نحن في الأرض التي بها مولد الحقيقة".
(هنا، و إن مانعت سأنصْرف) وكأن الشاعرة درّاج تؤكد على المكان و الزمان، تقول بأن الممانعة تقود للمغادرة و الانصراف دون الالتفات للوراء، للماضي..
إنّي أخاطبك..
يا من كلّم لغةَ صمتي..
أنصِت إليّ لا تجادلني
أينما كنت سآتي بك
سأستعيدك..
و أجعل غروبك فِي طيّ النسيان
ابق مشرقاً..
بإطلالتك يأتي الصّبَاح
ابق ثابتاً..
فليس أنت من تُمِيلُه الرّيَاح
ترجع الشاعرة مرة أخرى لرسالتها التي ضمنتها اعترافا، فتوجه النداء للمُخاطَب تناشده و تطالبه بالثبات و الإشراق، حيث تذكره مرة أخرى بالزمن الماضي، و باللغة التي فك شيفرتها يوما أين استطاع الحديث إلى لغة صمتها بلغة مشتركة، إذن فالمُخاطَب يعرفها جيّدا مثلما تعرفه.. تسترسل في الحديث إليه فتطلب منه أن ينصت إليها و لا يجادلها، وهنا نقف على إشارة مهمة للغاية بخصوص العلاقة السابقة التي يبدو أنّها كانت متسمة بالجدل، بالرأي و الرأي الآخر، بالحوار، بالنقاش، بالحديث بكل اللغات( قد تكون اللغة الفرنسية و العربية و العامية و لغة الصمت وغيرها) و الطرائق الممكنة. لكنها تطالبه بالإنصات القريب من الصّمت، حيث تحضر سيمياء الدال و تظهر لعبة المعنى واضحة. الشاعرة تستظهر قوتها وجبروت امرأة، إنه الجزء العميق في شخصيتها، إنه لاشعورها الذي تداعى فبرز عبر اللغة، حيث تبدو الشاعرة ذات شخصية قوية، تستطيع أن تأتي بالحبيب أينما كان، كما تقدر على استعادته في كل الأوقات إذا أرادت رغم تلميحها بالديمقراطية في بيت سابق حيث قالت: (هنا، و إن مانعت سأنصْرف).. بعد الاعتراف و طلب الغفران الذي يعني النسيان الكامل للخطأ، تبرز المطالب في الزمن المستقبل (سآتي، سأستعيد، أجعل)، تستخدم الشاعرة صيغة الأمر ( ابق) لتمارس غواية أنوثتها على حبيبها واعدة إياه بالحلم الجميل الذي ينتظره، بالصباح الذي يستلهم من إشراقته، تذكّر الشاعرة حبيبها بقوّته وقدرته هو أيضا على الثبات في وجه الرياح و النوازل و الخطوب، وهنا تستعيد مكانها الطبيعي كأنثى و تترك مظاهر القوّة للرّجل، إنها لحظة التفاعل و تبادل الأدوار، إذا ما أحسّت بالنأي و البون من حبيبها ذكّرته بقوّتها و قدرتها و إذا ما اقترب ذكّرته بضعف الأنثى فيها و استسلامها له.
يا من أسعفني في غفلة الدّهر
يا من قطفني من حديقة القهر
أقرّ أنّي نطقت سَفْسَفًا
وعُذرِي كَانَ تَعَسُّفا
أقرّ أنّي اخْترَقْتُ قلبًا
فانهمر سَيَلاَنُ الحُزْنِ فِي وِديان
ليفيضَ ألمًا لا يقبلُ بقربَان
أجْرَمْتُ بِقَوْلٍ فقتلتُكَ حَيّا
خَلّفتُكَ مَجْزَرَةً وَ أنشَدْتُكَ نَعْيَا
فبِتّ جُثّة تَنْهِمُ فِيهَا الأَحْزَان
مُنكَسِرًا تَرْتدُّ بيْن الَأوطان
بِلا عُنوانٍ و لاَ قَريب
لَقّبتَ نفْسَكَ بِالغَرِيب
يتأكد ولع العشيقة بعشيقها، فتستخدم النداء للقريب البعيد في نفس الوقت، تعيد رسم اللحظات الأكثر رومنطيقية في حياتها مع الحبيب، فتستعمل الاستعارات المتتالية لتعبر عن قلقها وحزنها، عن بداية علاقتها بالآخر ( الحبيب)، أين كانت تعيش على الهامش، على حدود الزمن شجرة في حديقة القهر، إنها دلالة على العلاقة بالطبيعة، تتبدى شعرية الإيكوفيمينيزم لدى الشاعرة دراج حيث تصر على إقامة علاقة بين ما هو مادي و ما هو شعوري، وهنا جواب الماهية على لامادية الوعي الممتد إلى حدود اللاوعي و شطآنه.. تواصل الشاعرة اعترافها الذي هو أكبر من البوح، وهنا تبرز ملامح هوية النص بشكل جيد أين نجد أن الشاعرة قادمة من أدب للغة أخرى غير لغة الضاد، أين النهل من قاموس اللفظ مرتبط بالثقافة، الاعتراف موجود أكثر في ثقافة الآخر الغربي أما البوح فهو موجود في لغتنا وينتمي لثقافتنا.. الفعل ( أقرّ) يعني الاعتراف بالخطأ وهو بيت القصيد في رسالة اعتراف، تكرر الفعل مرتين لتأكيد المعنى، هذا الإقرار أضاف للنص جمالية كبيرة حيث جمع القول الشعري بين مستوى الشكل و المضمون، وأثار شهوة القراءة لدى المتلقي، تتحدث الشاعرة في نصها عن الحماقات و التفاهات، عن اختلاق الأعذار بطريقة مستفزة، ظالمة، متسلطة.. وتقر بخطيئتها يوم اخترقت قلب حبيبها البريء فأراقته بإذلالها له و إهدارها لحيائه وكرامته وهو صاحب القلب الذي تضاهي قيمته اللؤلؤ الكريم، تستمر الشاعرة دراج في استعمال الاستعارات المتتالية فتصور و تشبه فعل إهدار الكرامة و إراقة قلب الحبيب بنزيفه حزنا ماضيا ارتوت به الأودية الجافة، ففاض القلب الكسير بالألم الذي لا يقبل قرابين الاعتذار، هنا نجد صاحبة النص تعترف بشدة ما اقترفت و بصعوبة عودة المياه على مجاريها، هنا تستسلم للرجاء و تنتظره، تعترف بجريمة قتلها للحبيب وهو يحدو الحياة، تقرّ بأنّها تركت وراءها مجزرة بأتم معنى الكلمة وهو تشبيه بليغ لدرجة المأساوية و الأسى و الحزن، إنها قمة الدراما حيث القتل يعني الموت، إنّه القتل الرمزي و الجرح النرجسي الذي خلفته وراءها في جسد حبيبها، ذلك الجرح الذي من الصعوبة بمكان برأه بسرعة.. حتى نشيد البجعة ( أنشدتك نعيا ) الذي أطلقته تعترف صاحبته بأنه لا قد لا يجدي نفعا، حيث لا يصلح الحطب المقعّر لإصلاح قلوب الحياة كي تعود إلى مرافئها.. تصوّر الشاعرة حالة الحبيب المنكسر المقهور بحال الجثة المطوّقة التي لا تشبع الأحزان من التهامها و الإقبال عليها لشدّة الجوع، في صورة تجعل المتلقي يستحضر تداعي الأكلة إلى قصعتها، و تداعي وحوش البرية إلى فريستها.. ترجع الشاعرة بالذاكرة إلى الوراء و تتذكر صورة الحبيب الذي طالما كان حزينا منكسرا يرتد كالصدى بين الأوطان، لا وطن يضمه ولا قلب يحمله، فهو الغريب دوما بلا عنوان ولا قريب..
انظر بجانبك ترَانِي مَرْفَأ
رسم الاستاذة حفيظة درّاج |
سأسكن مُقلتيكَ و أحْقِنُ الدّمُوع
سأشتّت عَتَمَتَكَ وَ أُضِيءُ الشّمُوع
سَأضَمِّدُ جِرَاحَكَ التِّي لاَ تلتئِم
و اطرُدُ عَنْكَ مَلاَمِحَ السّأم
سأرسُم لأسطولك شِرَاعًا
لتمضِيَ مِن جَدِيدٍ و تغزُو قلاعًا
لتنشُرَ فِي الآلاَمِ آمَالاً
وتَجْمَعَ مِنَ السّعَادة أنفالاَ
يعود الرّاوي صاحب الرّسالة إلى المزج و الجمع بين صيغتي الأمر بمعنى الطلب و المضارع، حيث تتجه الشاعرة إلى إلغاء المسافة بين الأنا و الأشياء فتدعو حبيبها إلى النظر من حوله بالضبط إلى جانبه، حيث الجنب و الجانب هو المكان الأنسب للمرأة مع الرجل، بجانب البحر تدعوه إلى مرفئها الذي هو مرفأه، تدعوه على السكن في قلبها المحب الذي يكفيها عناء الانتقال بين الملاجئ.. تعده بالوفاء و بطي صفحة الماضي و نسيانها، تعده بالسعادة و الهناء، تواعده بالأمل وتجفيف منابع الحزن في قلبه و عينيه، تعده بأنها ستقف إلى جانبه و تمنحه الحب الذي يضيء قلبه، تساعده على تحدي الحياة و إحالة آلامه آملا فيحيا بالحب، بالأمل ، فيحصل على السّعادة الكامنة و يقدر قيمة الحياة.
يا مُؤْنِسَ عُزلَتِي لَكَ مِنِّي السّلاَم
فَرُدَّ سَلاَمِي وَلْتَعُدْ أَحْلَى الأيَّام
في الأخير تنادي الشاعرة على محبوبها ، فتطلب منه أن يؤنس وحشتها، و يفض عزلتها، تهديه السلام وكلّها ثقة بأن رسالة اعترافها ستصله و تقع من قلبه محل المحبين العاشقين فيرتد محبا كلفا، ويردّ سلامها فتعود بذلك أحلى أيّام عمرهما.
قلم: أحمد بلقمري
تعليقات
إرسال تعليق