بومدين قال لي : "المثقفون عندنا ينقلون عن السلطة خطأ و ينقلون عن الشعب خطا"
الحلقة 10
تأثرت تأثرا شديدا بتلك الواقعة التي حدثت لي مع سائق سيارة الأجرة الذي طلب مني النزول من سيارته في منتصف شارع ديدوش مراد، ورفض أن يوصلني إلى مقر "لجنة الثقافة والإعلام والتربية" الموجودة بساحة الشهداء والتابعة إذ ذاك للأمانة الدائمة للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني.
- صرت أتذكر يوميا عتابه الغاضب والذي لخصه في قوله: "حتّى أنت صرت معهم؟"، وكان يقصد بهذه الجملة أنني كمواطن بسيط وفي ريعان الشباب أصبحت جزءا من طابور جهاز السلطة الحزبية الذي لم يكن يعبّر عن طموح أبناء الشعب الجزائري، ولا يجسد فعليا مشروع بناء المجتمع الحديث الذي تنتفي فيه الديكتاتورية وسيطرة الرأي الواحد الذي يملى من فوق. لم أكن أعرف ذلك السائق من قبل أبدا، ولكن لم يكن صادرا عن حس فردي واحد، بل كان الناس البسطاء في الأرياف، والمدن غير راضين عن الوضع في البلاد برمته. رغم أن الحس الشعبي العفوي لا يصدر غالبا عن التحليلات الفكرية، ولكنه رغم ذلك فإنه يلمس الحقائق ويعبر بصدق عن تلك المناطق المظلمة في الحياة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. في ذلك الوقت كنت أتابع باهتمام متزايد كتابات مصطفى الأشرف، وخاصة تحليلاته في كتابه "الجزائر: الأمة والمجتمع" ففي أحد الأيام قرأت له هذه العبارة الطويلة التي تؤكد مغزى وخلفيات ما قاله لي ذلك السائق: "لسنا ممن يبالغ في التشاؤم، ومع ذلك فمن واجبنا أن نؤكد بأن الثورة التي لا نزال نسميها بهذا الاسم، قد أصابتها ضربة شديدة منذ شهر. قد يقال بأن لحظات هذه الأيام الثلاثين السوداء إن هي إلا لحظات مؤسفة سوف تزول، ولكنها في الحقيقة أخطر من ذلك لأنها تدل على التنكر لمبادئ الثورة". وأبرز الأشرف بوضوح أكثر، وهو يتحدث طبعا عن الصراع المسلح والدموي الذي دار بين الأطراف المتنازعة على السلطة والكرسي بعد الأيام الأولى للاستقلال الوطني مباشرة: "إن الثورة مهما كان نوعها، عبارة عن جملة من الأعمال المحكمة المضبوطة بسياسة قادرة على أن تفرض نفسها في الميدان. وممكن بواسطة حزب يستلم قيادة الأمة".ثم يضيف هذه الجملة المهمة: "ولكن جبهة التحرير الوطني أثبتت عجزها في هذا المجال. وتفاقم هذا العجز بعد انسحاب لجنة التنسيق والتنفيذ إلى الخارج، وإنشاء الحكومة "م.ج.ج" فيما بعد. وهذا الأمر ساعد في بروز سلطة قوية متمثلة في جيش التحرير الوطني الذي آلت إليه جميع الأمور المتعلقة بالجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها...". دفعتني قراءة هذه المقاطع إلى تنشيط ذاكرتي، فعدت بها إلى أيام الاستقلال عندما خرجنا أطفالا وشبانا وكهولا وشيوخا في مدينة تازمالت بحوض الصومام في تجمعات كبيرة ننادي بأعلى صوتنا: "سبع سنين بركات"، وذلك في موقف معارض لسفك الدماء بين مجاهدي الأمس بسبب الصراع المسلح على الحكم. بدأت أفهم علة ركود جهاز حزب جبهة التحرير الوطني بعد الاستقلال وتحوله إلى مجرد واجهة للسلطة العسكرية الحاكمة، حيث أصبح لا يملك أية استقلالية، أو محتوى لصيغة الدولة الديمقراطية الحديثة المؤسسة على حوار الأفكار وتعدد المشاريع وليس على نطاح البنادق، واستخدام التعسف، وكبت الأفواه، وتعميم البيروقراطية والشللية في مختلف قطاعات ومؤسسات الدولة، بدءا من القاعدة إلى قمة الهرم في البلاد وفي حياة العباد. في فترة الثمانينات من القرن الماضي، أي عندما أصبحت عاصميا بحكم عملي الصحفي في القسم الثقافي بالمجاهد الأسبوعي، نشب نقاش بين مصطفى الأشرف الذي كان وزيرا للتربية وبين الدكتور عبد الله شريط على صفحات جريدة الشعب، وكان يوحي، وبدون سبب، أن جوهر الخلاف بينهما حول التعريب. كان ينظر إلى شريط على أنه ممثل المعربين، وكان ينظر إلى الأشرف على أن كفته تميل إلى التيار الفرانكفوني علما أن هذا الأخير كان في الحقيقة من نقاد الصحافة الناطقة بالفرنسية، وخاصة في السنوات الأولى من استقلال الجزائر، واتهمها مرارا وتكرارا بالتآمر والانحياز والطيش(أنظر صفحة 392 من كتابه المذكور آنفا للتأكد من هذا). كما أن الأشرف قد سبق له أن نوّه بصمود الثقافة العربية واللغة العربية كحامل لها أمام الاستعمار الثقافي واللغوي الفرنسي. وفي الوقت نفسه قد قدم نقدا واضحا لأولئك الذين كانوا يهمشون اللغات الشعبية: "ومن الغريب أن المتعلمين بالفصحى، الذين يحتقرون اللغات الشعبية، إنما يفعلون ذلك لأنهم غير واثقين من أنفسهم، ولأنهم لا يملكون زمام الفصحى ولا يكتبونها بعفوية، ولا يعتبرونها أداة للعمل والبحث والتبادل في الأفكار... "، ومن أجل ذلك فإنه يرى ضرورة جعل العربية لغة فكر وعلم وليس لغة خطابة وشكليات ومضامين خرافية: "فهذا المجتمع كان في حاجة إلى عقلية جديدة ولغة يعبر بها عن هذا العهد الجديد". تابعت النقاش الصراعي وخاصة من جانب شريط وتأسفت كثيرا للانقسام الذي يسعى إليه بعض الأطراف من أجل خلق النزاع بين المعربين والمتفرنسين، ومع الوقت أدركت أن عبد الله شريط قد حركته بعض العناصر في قيادة حزب جبهة التحرير الوطني ليقوم بالمهمة بدلا منهم، وجراء انعدام مثقفين لهم سلطة فكرية وشرعية في الهرم الأسفل والأعلى بين صفوف المعربين المتواجدين في قيادته. في هذه اللحظات بدأ موقف جديد يتبلور في ذهني ويتمثل في الإجابة عن هذه الأسئلة: ما هو دور المثقف في المجتمع؟ فهل المثقف ينحصر في خدمة خطاب السلطة وتحوّله إلى مبرر لها أم أنه هو ذلك الذي ينطق بصوت الشعب دون أن يتنازل عن نقد كل ما هو دوغماطي ومتخلف ورجعي وديكتاتوري في الذهنية والممارسة على مستوى الشعب والسلطة معا؟ هل النطق بضمير الشعب يكفي أم أنه ينبغي أن يتزامن الدفاع عن الشعب وعن مصالحه العليا في التقدم، والحرية، والمساواة، والرفاه الاجتماعي، وعدم التمايز الطبقي، وفي العلم والفكر، وفي قهر "الأميّات" المتعددة والمتشابكة من أمية حرفية إلى عقلية، وتقنية، وعلمية والتنظيمية العصرية وهلم جرّا؟ ثم لماذا "حدث للكثيرين من مناضلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية، أنهم أصبحوا موظفين في جهاز الدولة الذي لم تطلع منه، بعامة، طبقة من المثقفين تحافظ على مسافة نقدية من الدولة"، كما تساءل إدوارد سعيد يوما؟ رحت أتأمل في هذه الأسئلة أكثر فأكثر كلما تذكرت ما قاله لي الرئيس بومدين في قصر الصنوبر بمناسبة انعقاد مؤتمر الأدباء العرب ومهرجان الشعر في أواسط السبعينات من القرن الماضي بأن "المثقفين عندنا ينقلون عن السلطة خطأ وينقلون عن الشعب خطأ"، وهل تمكن اتحاد الكتاب الجزائريين في فترة 1981ـ 1985 من تشكيل جبهة أدباء ومثقفين ومفكرين مرتبطين بالشعب وعلى مسافة من السلطة الحاكمة؟ هذا ما سأنظر فيه لاحقا على ضوء تجربتي فيه.
تعليقات
إرسال تعليق