عالمٌ معاصر!! عالمٌ يضجّ بالاضطرابات العقلية
العدد: 91 التاريخ: 16/9/2011
يبدو أن هذا العالم الصاخب سريع الإيقاع لم تعد تقتصر أوجاعه على ما هو سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، بل تضمّنت هذه الأوجاع متاعب نفسيّة وعصبيّة يعاني منها أفراده، وجزء من الدهشة مبعثه أن معاناة إنسان العصر الحديث النفسيّة والعصبيّة لا تقتصر فحسب على المجتمعات الفقيرة أو متوسطة الحال، بل أضحت تشمل المجتمعات الغنيّة والمتقدمة. ما الذي أوصل إنسان العصر الحديث إلى هذه المعاناة: هل سرعة إيقاع الحياة اليومية؟، هل التنافس المعيشي، هل التقدّم التقني المذهل وغير المسبوق..؟ هل هي الحروب والصراعات والاضطرابات؟
علينا أن نتروّى قليلاً للبحث في الآثار التي تخلّفها السرعة والتكنولوجيا على وتيرة العيش الحديث وما تحدثه في الجهاز العصبي للإنسان ـ وهو جهاز ذو طاقة محدودة على التحمُّل والاستجابة ـ من اضطراب تمثّل في حالة عصريّة جديدة، "السترس" Stress، يعاني منها أكثر من نصف أبناء المجتمعات الغربية على شكل اضطرابات عصبية مختلفة وأمراض نفسانية قد تصل إلى الخلل العقلي، عكف عليها الباحثون النفسانيّون والسوسيولوجيّون والمفكرون لدراسة أشكالها عبر دراسات إحصائية ووصفية، ما دعا الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو Paul Virilio إلى تكريس حياته الفكرية ومؤلفاته للبحث في الفعل الذي أحدثته وتُحدِثه السرعة في شتى وجوه الحياة المعاصرة. ولعلّ العبارة التي تتصدر كتابه "السرعة والسياسة" (Vitesse et politique): "علينا أن نتمهَّل لنفكّر بالسرعة"، تختصر مشروعه الفكري الذي يختزله بكلمتين: "فهم السرعة".
والحق، أن علاقة وثيقة تربط بين أسلوب حياتنا المعاصر والاضطرابات العصبيّة/ النفسانية والعقليّة، إذ إن عصر السرعة أو المجتمعات التي تحيا على الدوام بأقصى سرعة، أنتجت وتُنتِج ضغوطاً نفسانيّة تحوّلت إلى وباء عالميّ يصيب ملايين الأشخاص حول العالم. وأسهمت الثورة التكنولوجيّة وارتباط العالم بتقنيات الاتصال عن بعد، في إحداث تفاعلات جديدة للعلاقات ما بين الناس، وبروز أنماط من التواصل الافتراضي حلّ محل الحوار وأصبح ينظّم علاقاتنا بالآخرين؛ ما كرّس العزلة والتنافر وتلاشي قيم التواصل الأسري والاجتماعي التي تعزّز الصحّة النفسانيّة، وأدّى إلى تغيير في المفهوم النفسي لهوية الفرد الذاتية والاجتماعية.
نتيجة هذا الواقع، يعاني 450 مليون شخص في عالمنا اليوم من اضطرابات عقلية ونفسانيّة، بينهم 154 مليون مصاب بمرض الاكتئاب، و25 مليون مصاب بالفصام، و91 مليون مدمن على الكحول.. وبحسب إحصائية جديدة صادرة عن منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتّحدة، يخسر العالم سنوياً مليون شخص يُقدمون على الانتحار، أي بمعدل حالة انتحار كلّ 40 ثانية نتيجة معاناتهم النفسيّة. ويشكّل عبء الأمراض النفسانيّة والعصبيّة نسبة 13% من مجمل أعباء الأمراض في جميع أنحاء العالم، وهي النسبة الأكبر بحسب الدراسات، متجاوزاً عبء أمراض القلب والسكّري والإيدز، ويتوقّع أن ترتفع تلك النسبة لتصل إلى 16,5% بحلول العام 2020.
ذكرت دراسة أوروبيّة حديثة أن نحو 165 مليون شخص من 30 دولة أوروبيّة، أي ما يعادل 38 % من السكان يصابون سنوياً بشكل من أشكال الخلل الدماغي مثل الاكتئاب أو القلق أو الأرق أو الخرف والأمراض العقلية والعصبيّة. ويقول معدّو الدراسة التي استمرت ثلاثة أعوام وشملت الدول الـ 27 الأعضاء في الاتّحاد الأوروبي، إضافة إلى سويسرا وإيسلندا والنرويج، والتي يبلغ تعداد سكانها مجتمعة 514 مليون نسمة، أن الخلل العقلي يشكّل أكبر تحدٍّ صحيّ في أوروبا خلال القرن الحادي والعشرين، وأن المرض العقلي يشكّل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً ضخماً يُقدّر بمئات مليارات اليورو، خصوصاً أن المصابين يعانون من البطالة ومن انهيار علاقاتهم الشخصية.
في دراسة إحصائية أميركية حديثة نشرتها صحيفة "الغارديان" أن 1% من الأميركيّين مصاب باختلال نفسيّ-عقليّ، أي أن 3 ملايين أميركي من أصل 300 مليون يعانون من هذا الاختلال. وأخطر ما في هذه الدراسة أن ثمّة من يُخفي اختلاله العقلي والنفسي وراء منصبه، مستغلاً موقعه الاجتماعي والسلطة التي يمنحه إياها هذا الموقع ليمارسه على المحيطين به. وأكّدت الدراسة الإحصائية الأميركية نفسها أن 4 % من مدراء الشركات والمؤسّسات الاقتصادية والإدارية مصابون بنوعٍ من أنواع الاختلال العقليّ والنفسيّ.
تشير دراسات إحصائية أخرى أجرتها منظمة الصحّة العالمية في العام 2011 إلى أن نسبة انتشار الأمراض النفساية والعقلية في العالم تتراوح ما بين 20 و25 في المائة، ويتراوح معدل إصابة الفرد بعارض نفساني خلال حياته بين 60 و70 في المائة. وترتفع هذه الأرقام في المجتمعات التي تتقصّى هذه الأمراض، في حين تنخفض في مجتمعات العالم الثالث. ويفسّر البعض ذلك بأنه انخفاض في معدلات الإصابة بالاضطرابات النفساية- العقلية في الدول النامية ومن بينها الدول العربية، وهذا تفسير لا يتطابق مع الواقع.
انتشار الأمراض العصبيّة النفسانيّة
لا تزال ثقافتنا العربيّة تعامل الأمراض العصبيّة/ النفسانيّة والعقليّة بـ"التجاهل" أو بـ"الرفض"، ولم تصل مجتمعاتنا بعد إلى الاقتناع بأن هذا النوع من الأمراض المتّصلة بالعقل هو أمراض عضويّة حقيقيّة، وجزء لا يتجزأ من أمراض الصحّة العامة. وتؤكد الدراسات الغربيّة والدوليّة أن امرأة من كلّ 6 نساء تعاني من أعراض نفسيّة، وأن 80% من نساء العصر يعانين من الضغط والإجهاد والتوتّر والقلق ومن أمراض جسديّة مختلفة، مقابل معاناة رجل من هذه الأعراض من بين 9 أو 10 رجال، في حين أن 10 % من الذين يراجعون عيادات الطبيب العام لديهم شكاوى وثيقة الصلة بالمشكلات النفسيّة والعاطفيّة، وأن أسرة من كلّ 5 أسر في المجتمع قد يصاب أحد أفرادها بمرض نفسيّ.
من هم المرضى النفسانيّون
في العام 1941 أطلقت كليّة الطب في ولاية جورجيا الأميركيّة أول تعريف طبّي على المرضى النفسانيّين، فوصفتهم بأنهم "الأشخاص الذين يمتلكون مجموعة معيّنة من السمات الشخصية والسلوكية المحدّدة، وأن المرضى النفسانيّين يميلون إلى إعطاء انطباع أوّلي جيد للآخرين، لكن سلوكهم يتمحور حول ذواتهم، وهم ينخرطون في تصرفات غير مسؤولة لأسباب غير واضحة، ويخوضون علاقات عاطفيّة عابرة وقاسية؛ إنهم أشخاص غير موثوقين ولا يمكن الاعتماد عليهم، وغالباً ما يقدّمون أعذاراً لأفعالهم المتهوّرة وينحون باللائمة على الآخرين".
تؤكّد الدراسات السيكولوجيّة أن الإنسان يُصاب بالمرض النفسيّ عندما يختلّ أحد ثلاثة جوانب في حياته النفسيّة هي: التفكير، المشاعر، السلوك. وتعرّف الأكاديمية الأميركية لعلم النفس هذه الأمراض بأنها عبارة عن حالة نفسيّة تصيب تفكير الإنسان أو مشاعره أو حكمه على الأشياء أو سلوكه وتصرفاته إلى حدّ يستدعي التدخل لمعالجته. اختلف العلماء في تعريف الصحّة النفسيّة والاضطرابات العقلية، وهناك مدارس عدّة تجيب عن هذا السؤال، إلا أن الدراسات بمجملها تؤكّد أن العوامل العضويّة النفسيّة والاجتماعيّة لها تأثير حاسم على نشوء هذه الاضطرابات، وأن أولى الملاحظات على المرضى النفسيّين تبدأ من خلال سلوك المصاب، وأسلوب مشاعره وتفكيره، وأسلوب نظرته إلى العالم من حوله.
الاكتئاب يتصدّر الأمراض النفسانيّة
تتوقّع منظمة الصحة العالمية أن يصبح مرض الاكتئاب المرض الثاني الذي يتسبّب بأكبر قدرٍ من الإنفاق العالمي على معالجة المرضى من جميع الأعمار بحلول العام 2020. ولفتت المنظمة إلى أن ربع سكان العالم سيصابون بمرض نفسانيّ في مرحلة ما من حياتهم، وأن الأمراض النفسانيّة تشكّل أحد الأسباب الرئيسية للوفاة والعجز والعبء الاقتصادي في شتى أنحاء العالم، وهي تمثّل ما يتراوح ما بين 8.8 في المائة و16.6 في المائة من عبء المرض الإجمالي الناجم عن الاعتلالات الصحيّة في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل.
كشفت دراسة استقصائية واسعة أعدّتها "مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية الأميركية"، أن واحداً من بين كلّ 10 أميركيّين يعانون من أعراض الاكتئاب، وأن بعض الولايات أكثر عرضةً للإصابة به من غيرها. وتضمّ ولاية ميسيسيبي أعلى نسبة إصابات بالاكتئاب في الولايات المتّحدة، وهي تصل إلى 14.8 في المائة.
في هونج كونج كشفت دراسة أن أكثر من واحد من بين كلّ 10 من البالغين مصاب بوسواس المرض، وقدّر الباحثون في الجامعة الصينيّة أن 570 ألفاً أو 11 في المائة من مجموع البالغين يعانون بعض أشكال وسواس التعرّض لمرض خطير أو توتّر مزمن غير طبيعي.
وفي الأردن كشف تقرير حكوميّ صادر في العام 2010 عن إصابة مليون ونصف المليون شخص، أي ما يعادل 25% من سكان الأردن، بأمراض نفسيّة تتوزّع ما بين الانفصام العقلي والقلق والاكتئاب والرهاب الاجتماعي والوسواس القهري. وأكّد التقرير تصدُّر الاكتئاب والقلق قائمة الأمراض النفسانية التي يعانيها المرضى في الأردن.
في المملكة العربية السعودية تسيطر الاضطرابات النفسيّة على 30 % من السعوديّين، بحسب دراسة أعدّتها مجموعة من الاستشاريّين النفسانيّين داخل المملكة. وأبرز الاضطرابات النفسيّة السائدة هي الاكتئاب، الرهاب الاجتماعي، القلق وهو أكثر الحالات انتشاراً.
في مصر يعاني 17 % من المصريّين من إحدى أشكال الأمراض النفسانيّة، 6.5% يعانون من اضطرابات المزاج، و3% يعانون من الاكتئاب الشديد.
في لبنان تشير "الدراسة الوطنيّة لتقييم الصحة النفسيّة للّبنانيين" التي نفّذتها جمعية "إدراك" أن 17% في المائة من البالغين الّلبنانيين ينطبق عليهم على الأقل معيار واحد من معايير تشخيص الإصابة بالاضطراب النفسي، وتنطبق على حوالى ربع العيّنة 25.8% معايير عوارض المعاناة من الاضطراب النفسي لمرة واحدة على الأٌقل، وكان القلق الأكثر انتشاراً (16.%)، فاضطرابات المزاج(12.6 % ) فالاكتئاب (9.9 %).
تعليقات
إرسال تعليق