هل المثقفون مجرد تقنيي المعرفة؟
بدأت أفكر طويلا وجديا في دور المثقفين في مجتمعاتنا بعد عودتي من ليبيا في عام 1981 إلى الجزائر.
- قد تبلور هذا التوجه عندي بعد أن رأيت بعيني انقسام المثقفين هناك إلى ملل ونحل متناقضة، وحين برز إلى السطح أن ثمة من دفع ثمن مواقفه، الداعية إلى الحرية وتثبيت سلطة الحجة على أنقاض حجة السلطة القمعية، غاليا وتعرض جراء ذلك للإقصاء والنبذ والتهميش، وللبطش وللسجن، وللتصفية الجسدية. وبالمقابل لقد كان ثمة من تحول إلى بوق للسلطة بأشكالها المختلفة وإلى مبرر وغطاء لأفعالها التعسفية، وأن هناك من اكتفى بالتنزه دون قول الحق والضرب على أيدي الباطل فضلا عن العناصر التي لاتهمها سوى المصلحة الشخصية وركوب الموجة. وهكذا بدأت أتساءل: ماذا يجب على المثقفين أن يفعلوه حتى يكونوا ضميرا لشعبهم ولعصرهم؟ لا شك أن البداية ينبغي أن تكون بإيقاظ الوعي من سباته العميق، أما الخطوة الثانية فتتمثل في تحديد الخيارات والمواقف بكل صراحة ووضوح وحسم. ففي هذا الإطار بالذات ينبغي التمييز بين المثقفين الذين يلعبون على حبال السلطة بمختلف الوسائل والأساليب وبين المثقفين الذين يقيمون المسافة معها ويمارسون النقد الشجاع لكل ممارستها التي تتناقض مع طموحات الشعب والخيار الديمقراطي. نعم لدينا مثقفون في أجهزة السلطة يمارسون التسلط والديكتاتورية، ونجدهم فاسدين وأحيانا أكثر سلطوية وقمعا من أجهزة الحكم المختلفة. إن هذا النوع من المثقفين قائم عندنا في مختلف المؤسسات وعندما يقصى أحدهم من منصبه بسبب خلافات داخل بيت الطاعة السلطوي، فإنه يبدأ في إظهار نفسه بدون حياء كمثقف نقدي للسلطة التي كان يلعب في ملاعبها على مدى سنوات وينتفع بامتيازاتها. إنّ هذا النمط من المثقفين مزدوجي الشخصية هم في الحقيقة أعداء حقيقيون للتقدم، وللشعب، ومثل الحرية. فالمثقفون في تقديري ليسوا فقط بتقنيي المعرفة أو أنهم مجرد عمال على جبهة البنية الفوقية، بل فهم مدعوون بقوة إلى الانخراط في عمليات التحويل المادي والروحي لمجتمعاتهم بواسطة الممارسة الميدانية.فالنموذج النظري وحده يتحول إلى صنم في حالة عدم وضعه على محك التطبيق. وبمعنى آخر فإن ما يسمى بمعيارية النظرية هو وهم. وهكذا فإن إيقاظ المثقفين لضمائرهم يعني بالدرجة الأولى الالتفاف حول الجماهير الشعبية المحرومة من خلال الفعل التثقيفي التوعوي والتنظيمي، ورسم المنهج الفكري، وطرائق التحرير الاجتماعي، والنفسي والسياسي والدفاع عن الحرية والمساواة والعدالة المادية والرمزية. بمعنى آخر فإن المطلوب هو أن يزاوج المثقفون بين العمل في فضاء الآراء وبين القوة الإبداعية لفاعلية الأداء مع التزام الصدق والنزاهة. إنه يعني ثانيا التموقع الطليعي، و نبذ الازدواجية في المواقف والممارسات. وفي الواقع فإن القول بأنه على المثقفين أن يصطفوا إلى جانب الشعب لا يليق أن يفهم منه بأنهم يجب أن لا يمارسوا التشريح النقدي للعناصر الثقافية، وللقيم الرجعية والمتخلفة التي تعشعش في وعي ولاوعي هذه الكتلة المدعوة بالشعب، ولكن هذا النقد مشروط بدوره باجتثاث النقاط المظلمة في ثقافة وسلوك المثقفين أنفسهم. من البديهي أنه لا يمكن أن يكون المثقف جديرا بهذا الاسم ما لم تكن لديه المرآة التي تعكس له ما في داخله من تناقضات، وتردد، وانتهازية، وتسويف وتذبذب، ونرجسية مغلقة، واستعلاء، ونكوص وتقمص لعادات القنافذ. بهذا الخصوص كتب جان بول سارتر يوما بأنه ينبغي شجب المثقفين الفاسدين لأن "الفساد بالتحديد هو الخاصية الأساسية التي يتمرد كل مثقف ضدها حينما يكون قد اكتشفها بداخل نفسه". وهكذا، فإنه لن يكون بمقدور المثقف أن يلعب دورا تحريريا في المجتمع ما لم يلعب دورا تحريريا لنفسه، مسبقا أو على نحو متزامن .إن هذا الشرط ليس أخلاقيا فقط وإنما هو شرط ثقافي وسياسي ومادي ومتعلق بقيم الحرية أيضا. لهذا السبب بالذات فإن للمثقف دورين متزامنين ويتمثلان في تأسيس الضمير الثقافي والسياسي والاجتماعي الديمقراطي، وفي نقد كل أشكال ومضامين القيم الظلامية في المجتمع والسلطة الظالمة والديكتاتورية، وفي التطهير الذاتي المستمر لما علق بشخصيته القاعدية من القيم الرجعية. إن مهمة المثقف إذن، تنطلق من مساءلة ذاته نقديا ثم المساءلة النقدية للبنيات الذهنية، والنفسية والثقافية، والمادية والسياسية في الطبقات الظاهرة والمستترة معا في تضاريس المجتمع. لا شك أن غرامشي قد سبق أن أكد أكثر من مرة "أن مشكلة خلق فئة فكرية جديدة تعني، على العموم، التشغيل النقدي للنشاط الفكري الموجود بدرجة معينة عند كل إنسان". فالقضية ليست نظرية مجردة ومعلقة في الفراغ. فالمثقف ينبغي أن يدرك مثلما يؤكد سارتر مرارا بأن "النظرية ليست سوى لحظة الممارسة: لحظة تقييم حقل الإمكانات التي توجد أمامها". إن تزامن النظرية مع الممارسة يعني في هذا السياق أن يكون المثقف، وهو وسط الشعب، فاعلا في مجــال اختبار التصورات في الواقع الحسي، أي في الميدان على أساس الجدل بين النشاطين معا. إنه لا يكفي، مثلا، أن يقدم المثقف تصورا نظريا للبنية الثقافية السائدة التي تعرقل أو تكبت التحرر الاجتماعي أو السياسي، أو كلاهما فقط، بل فإن ممارسة الكشف الشكلي وعن بعد عن عناصر هذه البنية لا ينجز أبدا تحويلا راديكاليا إذا لم يتم الشروع ميدانيا في اقتلاعها، وإحلال محلها البدائل الجديدة التي تؤسس للتقدم والتحرر. بناء على هذه المناقشة فإن أمام المثقف كما يرى جان بول سارتر في تحليلاته لماهية المثقف ولوظيفته واجب الكفاح على مستوى جبهتين وهما جبهة النقد الذاتي الأبدي، وجبهة الانحياز الملموس واللامشروط إلى أفعال الطبقات المحرومة".
تعليقات
إرسال تعليق