الشُّعراء يغيبُون في رَبيعِ العُمر..
وداعًا مالك بوذيبة !..
البارحة و السّاحة الشّعرية الجزائريّة تفقدُ واحدا من شعراءها المُلهمين مالك بوذيبة في عزّ الشّباب عن أربع و أربعين ربيعا، رجعتُ القهقرى، وعادت بي الذّاكرة إلى عديد الشّعراء الذّين غادروا حياتنا إلى الأبد على طريقة مالك رحمه الله، ذكرت فيمن تذكّرت الشّاعر الجزائري الكبير رمضان حمّود الذّي رحل عن الحياة و هو في سنّ الثالثة و العشرين مخلّفا وراءه روائع شعريّة من" وحي الضمير وإلهام الوجود " كما كان يحبّ أن يصف شعره، كما رحل أبو القاسم الشّابي، و لوركا و طرفة بن العبد و غيرهم كثير في ريعان الشّباب و زهرة الحياة، فهل قدرُ الشّعراء أن يعودوا للأرض سريعا؟. رحل مالك الحزين بعدما تساءل في قصيدته الخالدة: ما الذّي تستطيع الفراشة أن تحمله، قائلا:
عندما يذهب الشّعراء إلى النوم،
من يخرج الشّعر من كشتبان الرتابة،
من يدخل الشّعر في إكليروس الحداثة،
أو يوقظ الحاسّة السّادسه
رحل مالك، و بقي سؤاله دون جواب:
ما الذي يترك الشّعراء لقرائهم..
في بريد الصباح،
وهم يسقطون بلا سبب واضح،
في الفراغ الرهيب،
كما تسقطُ الثمرة الذابله!
غادرنا مالك بوذيبة، بعدما حدّث سهيلة بورزق عن جدوى الكتابة مجيبا عن سؤالها له: "هل تقاعدت كتابيّا؟"..
«أمّا عن حالات الكتابة فتأتي ولكني لا أطاوعها.. أنت صديقة قديمة وأصارحك بكلّ شيء.. إنّ سنوات البطالة التي مررت بها قد أثّرت كثيرا في نفسيتي وفي أوضاعي المادية والأسرية، وبالتالي فأنا أحاول الآن تعويض ذلك الجانب الضائع من حياتي.. أعترفُ بأنّ ذلك كان على حساب الكتابة.. ولكنّي لا أحسّ بالسّوء لأنّ الكتابة أخذت الكثير من وقتي ومن رزقي فيما مضى.. إنّها لعبة مدمرة هذه الكتابة فلا تسمحي لها بأن تدمّرك.. لأنّ ابتسامة أطفالك في المساء حين تعودين من العمل أغلى وأجمل من كلّ نصوص الكتّاب.. أما إذا صرنا نعود منهكين وممزقين من الخراب والحروب وأطفالنا جائعون فاٍنّ تلك الابتسامة تبهت مع الأيّام وتبهت معها كل النّصوص الجيدة بما في ذلك زيفُ الشّهرة وحلم الوصول.. هل تعرفين النّداهة؟، هل استمعت يوما إلى صوتها الذي يناديك إلى الخراب؟، الكتابة هي تلك النداهة التي تقود إلى الخراب لا سيما الكتابة في حالة جوع وحالة إملاق، قالت غادة السّمان ذات جرح إنّ الشّهرة بلا فلوس كارثة.. ولم أفهم معنى ذلك حتى صرت لا أجد ما أطعم به ولدي الوحيد.. وأكلتُ كلّ قصائدي ولم أشبع.. وأكلتني القصائد لعشرين سنة ولم تشبع.. وتكاثر حولي أعداء الكتابة أكثر من الأصدقاء، إذا كتبت نصّا رديئا أعدموك نقدا و إن كتبت نصّا جيّدا أعدموك حقدا وغيرة.. وتسألينني هل تقاعدت كتابيا؟!، وأتفاجأ من حدّة السّؤال وأتفاجأ أكثر من شماتة الجواب، أكذب لو قلت نعم، وأكذب لو قلت لا، أموت لو أقول نعم وأموت لو أقول لا… أرى سؤالك كحبل مشنقة أنيق يتدلىّ أمامي- و بالمناسبة لم أعد أرتدي ربطات العنق لهذا السّبب-، هل تقاعدت كتابيا؟، سأجيبك عندما أتأكّد ألفا بالمائة من أنني لن أموت وأطفالي جوعا في وطن يرفلُ في الثروات [i].«
و تسأله سهيلة من جديد: من أين تبدأ حكاية الكتابة؟، فيجيبها مالك الحزين صاحب الرّقصة الأخيرة حول نار الحبّ:
»قبل أكثر من عشرين سنة كانت الحكاية قد بدأت بالفعل.. هناك جذور رقيقة للكتابة تمتد عميقا في الطفولة، و إن بأشكال أوّلية بريئة ومشاغبة.. أوّل النّصوص يا صديقتي كانت قد كتبت بالفعل بأقلام الرّصاص على كرّاس الدّرس.. هل تذكرين دُخولك المدرسيّ الأوّل خريف ذات حلم ورائحة الطبشور تغزو مريولتك المدرسيّة المنقّطة بالأرجوان؟، أنا أذكُر كلّ شيء.. وأذكرُ حتّى رُسوماتي الأولى بأقلام الرّوترينغ على الجدران.. و أولى رسالاتي إلى حبيبتي الأولى في القسم الأوّل.. و حكمة أستاذ التاريخ "كلّ إنسان موهوب بالفطرة، بعضهم يجد ضالته والبعض يضلّ طريقه إلى الموهبة"، و أنا وجدت ضالتي في الرّسم، ثمّ ضللت طريقي بعدها إلى الشّعر..كتبتُ نصوصي الأولى التي نشرت على أوراق الإجابة في البكالوريا وأخذتُ صفرا… خسِرتُ البكالوريا في عامي الأول وربحت نصّا.. طرتُ فرحا وأنا أقرؤه على الجُرنال.. فرحت به أكثر مما حزنت وأنا أكرّر المأساة.كنت دوما أقول أن الكتابة تولد من رحم المأساة.. والمأساة تولد من طفولة شقية.. من والدة نصف مشلولة ووالد مُدقع الفقر فقير العاطفة.. قرأتُ، قرأتُ، قرأتُ حتى تمثّلت حياتي في الشّعر.. حياتي التي لم تعد قبلها ولا بعدها حياة.. ألا لعنةُ الله على حياة الشّعر.. إنّها أكذوبةُ عُمر على بعد و نصفُ ياردة من الجنون.. أحببتُ، أحببتُ حتى دمّرتُ عُمري و عُمرَ الأكذوبة، و دمّرت نصفَ حبيباتي.. و النّصف الآخر ذهبن إلى مصحّة الزواج.. و تزوّجتُ أخرى لا علاقة لها بالشّعر وتوقفت الأرض عن الدّوران.. توقّفت أنا عن الحبّ و عن الكتابة بعد خمس دواوين شعرية و طفل وحيد، طفل جميل رائع.. ولم تتوقف الحكاية التي كانت قد بدأت قبل أكثر من عشرين سنة».[ii]
هكذا رحل مالك فغاب قمرٌ شعريّ آخر عن ليالي الجزائر التي تحنّ إلى أقمارها و كوابها و نجومها المتلألأة في زمن الرّداءة و القتل.. مات مالك !، فكيف سيكون صباح الصّبية؟:
صباحُ صبيه
ولكن..
إذا مسّها الماء في صدرها قد تصير نبيه!
-وماذا إذا صلبتها الزّوابع من شعرها
هل تصير قتيله؟!
-تصيرُ قبيله!
وما بين موتٍ وموتٍ جديد
تموتُ كثيرا وتحيا قليلا!
صباح زرافه
وأسطورة الشّعر والشّعراء
صباح خرافه!!
قلم: أحمد بلقمري
تعليقات
إرسال تعليق