/ وُجوهٌ فِي مَرايا مُكَسّرةٌ

القائمة الرئيسية

الصفحات

وُجوهٌ فِي مَرايا مُكَسّرةٌ



وُجوهٌ فِي مَرايا مُكَسّرةٌ

قال صاحب هذا المقال في رسالة إليّ:
الصّديق الأديب و النّاقد  عمر جلاّب

إلى سيّدي الكريم أحمد؛

أرسلُ إليك بمقال تحت عنوان وجوه في مرايا مكسّرة، أرجو فقط أن تعلمني حين وصوله في بريدك لأطلب منك تنقيحا بسيطا.

طلبت منّي سيرتي الذّاتية...

لا بأس في أن أوجزها لك في هذه الأسطر التّي قد تؤدّي المقصد.

أنا مسكون بيومياتي البسيطة التّي أعانقها و تعانقني في كفاح صامت لا يسمعه جبابرة القوم. أعشق الحرف حدّ النزف... و أبحث عن دفاتر عتيقة بين أزقّة باردة.. لا يجدي أن يشار إليّ بالبنان، فالحرف عَرَف قبلي من هم أعظم منّي... بيد أنّي أحيا بالكلمة، و أقدّس أنوارها...

قد أكتب للحبّ، للخير، للعدل لمّا يقتل الأبرياء تحت صمت الجبناء... غير أنّ هذه الكتابة ظلّت حبيسة دموعي تارة و أوراقي تارة أخرى...

ليس يهمّ...

فلقد يُدركني يوم أبتسم فيه لأنّ قارئا ممن تلهمهم أو تعنيهم نفحاتي قد قال : كلماتك برد وسلام في زمن تلفحُ أوزار المادّة وجوه طالبيها...

هذا أنا يا من تُريد التعرّف عليّ، فلك منّي كلّ الحبّ.


أيّها الأصدقاء اخترتُ لكم اليوم مقالا رائعا لصديقي الأستاذ عمر جلاّب النّاقد الأدبي و خريج جامعة السّربون يتحدّث فيه عن أعمال الباحثة الأمريكيّة دليا بيكون في سبر أغوار حياة و مسيرة الكاتب المسرحي الكبير إدوارد شكسبير، مقالٌ فيه من المتعة و القيمة ما يجعلنا ندين لصاحبه بهذه الإفادة، و يقودنا لطرح ذات السّؤال الذّي طرحه صامويل تايلور كولوردج: " هل يعقل أن تكون أعمال أدبيّة بهذه القيمة من نتاج رجل كانت حياته كالحياة التي تنسب إلى شكسبير؟، هل هناك معجزات في الأدب؟، هل يختارُ الله البلهاء لكي ينقلوا الحقيقة الخالدة للبشر؟!".[i]

النّص:

وُجوهٌ فِي مَرايا مُكَسّرةٌ

يقال أنّ حجارة القبر سقطت عليها، فختمت مشوار رحلتها الطّريفة !

و يقال أنّ المرأة اختارت مصحّة عقليّة بعد أن غادرتها كلّ أسباب المنطق، وضاقت بها مدينة الضّباب على سعتها !.

و هي التّي أفرغت نوازع طبيعتها في ألف صفحة..

هكذا قيل عن امرأة عرفت بهستيريا النّبش في مقابر التّاريخ !.

معالم الرّحلة كانت من العالم الجديد بألقه، و تألّق حضارته حيث دليا بيكون، الباحثة التّي كانت تصارع العنوسة و تشكو حظّها البائس مع الرّجال الأحياء، فاختارت لها زوجا ميّتا لم يجمعها به الحبّ كباقي الأزواج، و لم تجمعها به الحياة !.

إنّه شكسبير الذّي حملت له كراهية لا حدّ لها بعد أن قرأت له، و قرأت ما كتب عنه بدأب كبير.

و إذا كان اهتمامنا بأعلام الفكر الإنساني تلازمه ثنائيّة الحبّ و البغض، أو الحياد، فإنّ هذه المرأة نذرت حياتها قربانا لحقيقة الرّجل !!

انطلقت دليا بيكون برشاقة أمريكيّة متوثّبة، و جمال عينين غائر يحمل المكر للرّجل، كما يحمل بريقا من التحدّي لكلّ ما هو أرسطوقراطي !!

و لم تكن قامتها الطّويلة لتسمح لها أن تتطاول على الضّباب اللّندني، بلْه التطاول على قمّة من قمم الأدب، و لعلّ بداية الشّكوك حول كاتب المسرحيّات لم تكن حديثة عهد في حياة المرأة، بل تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، لكنّها اكتملت و عرفت نضجا على يد الباحثة الأمريكيّة التّي كانت تحاضر طلبتها عن حياة الرّجل و أدبه.

توفيّ شكسبير في الخامس و العشرين من أفريل عام 1616م، و وري التراب في قريته، و على شاهد القبر نقشت أبيات تقول:

" الصّديق الطيّب لخير يسوع، لن يرضى أن يُحفر التُّرابُ الثّاوي هنا...

ليبارك الله فيمن يحفظ هذه الأحجار،

و يلعن ذلك الذّي يحرّك عظامي !"[ii]

خلّف الكاتب سبعا و ثلاثين مسرحيّة طُبع منها سبع عشرة مسرحيّة، و كانت حياته خالية من كلّ ما يميّز العباقرة من فلتات، حتّى أنّ والده كان تاجرا صغيرا، و أنّ زواجه من " آن هاتاوي" كان على عجلة، و أنّ السّجلات تشير إليه كممثّل متقاعد، و سارق غزال؟!

و ما يثير النّاقد وصيّته التّي نصّ فيها على هبة سريره لزوجته، و بعض المال لخاصّته.

و لربّما تكون هذه النّقطة و غيرها من النّقاط المثيرة هي التي دفعت بالباحثة إلى التحقّق من شخصيّة الرّجل.

إذ كيف نتصوّر أديبا بحجم شكسبير لا ينفّذ و صيّته لنشر و صيانة موروثه الأدبي و الفكري؟ !.

إنّ غموض حياة شكسبير كانت عنصر جذب في خيال المرأة، لكن الأبيات التي نقشت على قبره، ثبتت في أفكارها بطلان قضيّة الرّجل في ميزان الأدب.

هذه الخيوط الرّفيعة هي التي حبكت بيت العنكبوت الذّي أوهنته أعاصير شتاء لندن و أحاله ضبابها و هم خافت في أعين النقّاد. فقد قال عنه صامويل تايلور كولوردج: " هل يعقل أن تكون أعمال أدبيّة بهذه القيمة من نتاج رجل كانت حياته كالحياة التي تنسب إلى شكسبير؟، هل هناك معجزات في الأدب؟، هل يختار الله البلهاء لكي ينقلوا الحقيقة الخالدة للبشر؟!".[iii]

من هذه المنطلقات و غيرها، راحت المرأة تحاضر بكلّ ما أوتيت من نباهة و سعة أفق، و إتقان لأعمال الرّجل، و كانت بذلك تستهوي القلوب، و تأسر الأفهام، لكنّها سرعان ما تصطدم بجدار من الرّفض و التهكّم أحيانا، إذا انكشفت سريرتها على ما تحمله من نقض لحقيقة الرّجل.

و قد أحدثت آراء المرأة و جراءتها زوابع في آفاق الأدب و الفكر.

فلم تكن لتمرّ هكذا، حتّى أنّ المفكّر الأمريكي "إمرسون" استوقفته آراؤها، فأحالها على أحد الأثرياء يدعى هوثرون ليموّل رحلتها إلى إنجلترا، ثمّ إنّ "إمرسون" زوّدها بتوصية فتحت لها المغاليق.

و مثلما تحمل السّفينة ذلك الزّخم الهائل من البشر، حملت دليا زخما فكريّا مثله، لتنزل ضيفة على قوم أحسنوا ضِيفَتَها، و أحسنوا الإنصات إليها، لكنّها تصادمت معهم حينما مسّت مفخرة الأدب الإنجليزي.

و الغريب أنّ المرأة لم تكتف بما تحمله من أفكار و عواطف كره للرّجل، و لم تنثن عن عزمها حتّى ذهبت إلى قرية شكسبير حيث يوارى التّراب، لتكتشف الحقيقة، فلم تتح لها الفرصة في بداية مشوارها التحقيقي الذّي امتدّ، وامتدّت معه أعباء الحياة و قساوتها في إنجلترا، إلى أن أتيحت الفرصة لهذه الباحثة بعد تواطؤ مع قسّ القرية !!.

غير أنّها لمّا قامت على قبر الأديب ذَعُرَتْ، و لربّما قالت في نفسها: سأكتفي بالألف صفحة، فقد يغني نبش الكلام عن نبش العظام !!.

و بهذا طلبت زوجة شكسبير التّطليق، بعد أن قهرها الأديب برجولته المعنوية، فغادرت إنجلترا، و غادرت عقلها، و غادرت الحياة أخير ا، لتلتحق حقيقة بعالم شكسبير.

عمر جلاّب، يوم: 10 / 04/ 2000   نشرت بجريدة أبراج الأسبوعيّة





[i] نبض الفكر . عبد الصّبور صلاح، ص: 123

[ii] المرجع السّابق،  ص: 122


[iii] المرجع السّابق، ص: 123
هل أعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع