ما
قالهُ أزْرَاج، وَ مَا لَمْ يقُله في بيْتِ القَصِيد ..
![]() |
الشّاعر والمفكّر الكبير عمر أزراج |
صديقي الشّاعر والمفكّر أزراج؛ قال
فلوبير يوما:"ما يعذّب حياتك، يعذّب أيضا أسلوبك في الكتابة"، ألا
تعتقد أنّ كتاباتك تتّسم بهذه الصّفة، أقصد صفة العذاب؟. ألم تقل في قصيدتك
العصماء؟:
أيّها الطّفل المجرّب
أيُّهَا الطّفل الذّي قمطتهُ ريحُ
العقارِب
أيُّهَا الطّفل الذّي يلبسُ في
الظّلمة أسْوَار الكواكب
لم تسعْكَ الطّرقات
و العِمَارات
و أكياسُ اللّغات
حتّى أكياس الحروف و الكلمات و
اللّغات يا أزراج لن تسع في رأيك ذلك الطّفل بداخلك، ذلك الذّي صار شاعرا يكتب
ألمه، و يعذّب أسلوبه في الكتابة. صديقي الشّاعر، أيّ لغة ستسع طفلك المهموم والمتّصل
بالإنسان، بالأرض الجميلة الرّاحلة أبدا عبر المجرّات؟!. أما يزال
دورُ الطّفل المُسافر في الكون تعديل كلّ ما هو موجود في هذه الأرض، و التأسيس للحُبّ
وللعلاقات الإنسانيّة الجميلة، والدّفاع عن حظوظ الضّمير، و مهاجمة الشّر أينما وُجد؟.
أما يزال الطّفل الشّاعر برأيك صوتا للحقّ؟.
صحيح، لا توجد وصفة مُحدّدة تنطبق
على كلّ الشّعراء، فلكلّ شاعر طريقته في إقامة العلاقة مع التّاريخ، و مع المجتمع؛
لكن ألا تعتقد أنّهم يشتركون في ذات الدّور و المُهمّة؟، أليس كلّ الشّعراء يشبهون
بعضهم؛ إذ يتواصلون مع قارئيهم كما يتواصل طعم التّفاحة مع فم آكلها؟، أليس كلّ
الشّعراء بطفولة من حزمة روائح كما قال لويس شادون؟، أقصد هنا رائحة الأمّ،
الأرض، الأب، التّراب، الزّمان.
صديقي أزراج؛ صحيح، أنّ الشّاعر إذا
لم يعدّل، و يغيّر من ثقافته، و من الثقافات التي يتحاور معها، ويقيم معها العلاقة
يبقى مجرّد كاتب للكلمات، بل مُصفّفا للكلمات، و لا يعدو إذاك إلاّ أن يكون حلاّقا
أو فلاّحا على حدّ قولك.
صديقي أزراج؛ قلت في حديثك أنّك
عندما تترجم تتحوّل إلى مِهْنيّ، هل يقظة الوعي لديك تجعلك حذرا من العلاقة
أنا-أنت، أم أنّك بهذه الطّريقة تحاول أن تجعل من يقظة الوعي تتطابق مع ما تتعلّمه
من اللّغة التّي تدخلك شيئا فشيئا إلى المجتمع، و تجعلك تقترب و تعيش في عوالم
أولئك الشّعراء الإنجليز والغربيّين الذّين تقرأهم؟(لاكان، 2006، ص102). أعتقد أنّك
بهذه الحِرَفيّة فقط سيكون الشّعرُ مُهمّتك أكثر ممّا هو مِهنتُك.
صديقي الشّاعر؛ دعنا نكون أكثر صدقا
و تداعيا، أيّهما مارس سطوته عليك من بين هؤلاء الثلاثة: الحرف الأمازيغي المصوّر
الملفوظ، أم الحرف العربيّ الذّي تعلّمته في سنّ الثانية عشر، أم الحرف اللاّتيني
فرنسيّا كان أو إنجليزيا؟. قريبا ممّا كنت قد عشته أثناء الثّورة التحريرية
الجزائريّة، بأيّ حرف كنت تعبّر عن ألمك و عذابك؟، بأيّ لغة كنت تحلُم؟، بأيّ لغة
كنت تكتب لاوعيك؟. أعرف أنّك وقفت حائرا في منتصف الطّريق بين عالمين أساسيين، بين
حرفين رسميين، بين أمّين و طقسين، يفرضان سطوتهما عليك، أدرك حجم العذاب الذّي حلّ
بك و أنت تحاول رسم تلك المجازر، و الموتى، و مشهد المشرّدين في الغابات، و صورة
نومك في جذوع أشجار الزّيتون خوفا من القتل الفرنسي. كنت صبيّا صغيرا، أعرف ذلك
جيّدا، وكنت تكتب الشّعر لتبرأ من ألمك، و تستعيد طفولتك التّي ضيّعتها فرنسا؛ أعرف
أنّك كنت تكتب الشّعر لتستعيد طفولة جيلك التّي ابتلعتها وحشيّة الاستعمار
الفرنسي. المداواة من هذا الفقدان ستكون بالكلام؛ من أجل ذلك ضع غضبك و ألمك في
الكلمات صديقي، إلى أن يتوقّف الفقد عن مطاردتك.
صديقي أزراج؛ من قال أنّ الشّعوب
العربية عاشت طفولتها؛ أو أنّها تخلّصت من ممارسة الكبت؟. نحن شعوب بلا طفولة دون
شكّ يا صديقي؛ لذلك نحن في أمسّ الحاجة للّسان(La bouche)؛ حتّى نخرج
من كهفنا المُظلم، و المداواة من هذا الدّاء يلزمها قلبٌ يُحبّ الحياة، و يحيا ليُحبّ.
صديقي؛ أنت قلت أنّ صديقك الشّاعر
الدّاغستاني رسول حمزاتوف شبّه الشّاعر بالطّير الذّي يحلّق في السّماوات
مع سربه، و يتحوّل هذا الطّائر إلى نوع من الشّاهد على ما يحدث على الأرض؛ فيغنّي
الآلام و يغنّي أيضا حظّ المحبّة في هذا الكون، و أنت قلت بأنّك تزاوج ما بين
كتابة الشّعر و ما بين التّفكير؛ إذن أنت شاعر طائر بجناحين؛ جناح الشّعر و جناح
الفكر.
صديقي عمر أزراج؛ أنت اعترفت أمامنا
بأنّك اكتشفت أميّتك حين رحلت إلى بريطانيا و احتككت بالمجتمع البريطاني، و تفاعلت
مع الدّراسة الأكاديمية؛ فكانت مهنتك في بريطانيا و مهمّتك أيضا هي أن تمحو
أمّيّتك، لكنّك لم تخبرنا كيف فعل بك الحرف اللاتينيّ، هل مارس عليك سطوة جديدة؟،
أم تراه جاء ليفتح أمامك عوالم جنّة فكريّة، جعلتك تحلّق بجناح جديد يضاف إلى
جناحك الشّعريّ؟. ورُوحك، كيف صارت وشائج المحبّة فيها، و التعلّق بالأرض كيف
استحال، و الفقد ما فعل بك؟، واللاّوعي هل تكلّم هناك في بريطانيا فأسمعك؟؛ هل
تحسّست رقبتك في حُلمك فوجدتها تستعير نارا؟، ألم تكن نار رغبة في اختراق الحجب، و
معرفة كينونة الأشياء، و كينونة العلاقات بين الأشياء، وكينونة العلاقة بين
الإنسان و الطّبيعة؟.
نعم صديقي؛ الشّاعر الذّي يفكّر، هو
ذلك الشّاعر الذّي يستطيع أن يحوّل الفكر إلى عاطفة. لذلك وجدناك مفكّرا قبل أن
تهاجر إلى بريطانيا، ألم تكتب من قبل شيفرة شعريّة، اسمها: "العودة إلى تيزي
راشد"؟، أما حملت قصيدتك و احتملت طاقة سيميائيّة، و تمثّلات جعلت مستمعيك و
قارئيك يثأرون لطفولتهم بشعرك، كما جعلت خصومك في الحِزب( في السُّلطة) يثأرون
منك؟.
هل كان يجب صديقي الشّاعر أن تنتظر
كلّ ذلك العمر لتكتبك قصيدة؛ فتغيّر مجرى حياتك؟، أم أنّ قدرك ساقك إلى سائق سيارة
تاكسي فتنك، حين قال لك: حتّى أنت يا أزراج منهُم؟*. ألم تنبئك طفولتك بعمل أهل الاستقلال بعد
الاستفراد بالحكم؟، أم أنّك كنت تعفو عنهم، و تبيّض وجوههم لدى النّاس حتّى أصابك
وبالهم؟، ألم تقل أنّ شرخا داخليا أصابك، و أنت ترى المجاهدين يذبّحون بعضهم غداة
استرجاع السّيادة الوطنيّة؟، كيف لم تنتبه لكلام الشّعب عنهم؟، أم كنت ذلك الطّفل
الذّي شرّدته لسعة الشّك دون أن تقف على أرض اليقين؟. حتّى أنت يا أزراج استسلمت
لوهلة أمامهم؛ حتّى أنت، وقد كنت ترى سقوط الظّل على صوت بلادك؟. قل لي بربّك
أيّها الشّاعر:
من خان مبادئ
الثّورة؟،
على رأي
الشّاعر الجزائريّ عبد الرّزاق بوكبة: من دسّ خفّ سيبوية في الرّمل؟.
*المقولة لسائق سيارة تاكسي كان يقلّ
الشّاعر عمر أزراج للمشاركة في أشغال صياغة الميثاق الوطني الجزائري، فدفع هذا
السّؤال بالشّاعر المفكّر إلى الدّخول في حوار داخلي مع نفسه، فجّر كتابة قصيدة
" العودة إلى تيزي راشد"، حيث تمّت قراءتها بملتقى محمد العيد آل خليفة
للشّعر ببسكرة، و سبّبت ذات القصيدة متاعب بالجملة لصاحبها من طرف البوليس السياسي
بالجزائر، فدفعته دفعا إلى الهجرة إلى بريطانيا اتّقاء لشرّ الخصوم، و بحثا عن
الأمن والاستقرار.
مقتطف من
قصيدة :
العوْدَةُ
إِلى تِيزِي رَاشد
العصافيرُ سواقِي لأغانيها
وأنهارُ القُرى تسري قوافل
لستِ أرْضًا و كفى
أنتِ ندى في حجر
مالت إلى قلبي شظايا الشّيب فجأة
تركت الشمس يديها
قرب سراب لفّه برد الرّماد
سقط الظّل على صوت بلادي
و ذوى حلمي سُخاما
كم تغيّرنا إلاهي
كم تغيّرنا
وأضحى العشب مخلب
أيّها الطّفل المجرّب
أيّها الطّفل الذّي قمطته ريح العقارب
أيّها الطّفل الذّي يلبس في الظّلمة أسوار الكواكب
لم تسعك الطّرقات
والعمارات
وأكياس اللّغات
أنت أوقفت السّحابات على زندك
أجلست الهوى
ثمّ غنّيت له حتّى ارتدى ستر البكاء
أنت أسكنت النّساء في خرير الكلمات
أيّها الطّفل الذّي شرّدته لسعة الشّك
لن تسعك الطّرقات
والقطارات
وأمواج الإذاعات
ولبلاب الشّفاه المائلة.
لن تسعك نقطة أو فاصلة
فلمن تحكي إذن دهشتك القصوى
لماذا تنسج الرّيح دخان
ولماذا غدروا الحلم و قرط العاشقة
ولماذا استسلموا أو صعدوا خيط الوظيفة
فلمن تحكي إذن قصّة أشجان الطّفولة
إنّني أسأل سجّان الحمام
فلماذا لم يعد سحر الكلام خبزة أو مزرعة؟
ولماذا رموا ليلا مناديل اليمام بين كفّي غابة محترقة؟
ولماذا غلّقوا عشبة الروح في عزّ الظّلام؟
في الجهات السّت أعوي..
لماذا لم يخيطوا للنّساء جبّة الماء
وزهر الضّوء في ليل المصير؟
العصافير سماوات، و تفاح القرى يسرق في الفجر
وسحر نبيذ العمر يسقى للنّسوة في السّوق
وفي الحقل الذّي مدّ إلى الفلك الشّراع
حان لي يا أهل تيزي راشد الأفيون و الحمّى و أغصان الشّعاع
أن أُخرِج الكهف منّا
حان لي أن أهجر أسوأ الرّموز
حان لي أن أسحب التّاريخ من يأسه
حان لي أن أخلع خوفي من الوحش و قطّاع الطّرق
إنّني أهجر أقفاصا دفنوا فيها وعود الشّهداء
ورموا الرّمضاء لكي تدفأ أوتاد الخيام
للرّيح قلت : لفّني في ساعديك !
حان لي أن أختفي داخل نفسي ثمّ أمشي نحو سعديّة
في الفجر، وبذكر الحبّ تزداد الخطى عشقا و زهوا
وحوالي الدّار هوّمت و درت
وسألت النّار، و الجار، و ظلّ الطير، و الثّوب القديم
ثمّ لملمت حواسي
افتتحت الباب
في السّقف أطلت قربة عطشى، و أكوام الهشيم
أيّها الحبّ القديم لم يعد سحر الكلام
يرجع الموتى إلينا بعدما صاروا حطام.
وأنهارُ القُرى تسري قوافل
لستِ أرْضًا و كفى
أنتِ ندى في حجر
مالت إلى قلبي شظايا الشّيب فجأة
تركت الشمس يديها
قرب سراب لفّه برد الرّماد
سقط الظّل على صوت بلادي
و ذوى حلمي سُخاما
كم تغيّرنا إلاهي
كم تغيّرنا
وأضحى العشب مخلب
أيّها الطّفل المجرّب
أيّها الطّفل الذّي قمطته ريح العقارب
أيّها الطّفل الذّي يلبس في الظّلمة أسوار الكواكب
لم تسعك الطّرقات
والعمارات
وأكياس اللّغات
أنت أوقفت السّحابات على زندك
أجلست الهوى
ثمّ غنّيت له حتّى ارتدى ستر البكاء
أنت أسكنت النّساء في خرير الكلمات
أيّها الطّفل الذّي شرّدته لسعة الشّك
لن تسعك الطّرقات
والقطارات
وأمواج الإذاعات
ولبلاب الشّفاه المائلة.
لن تسعك نقطة أو فاصلة
فلمن تحكي إذن دهشتك القصوى
لماذا تنسج الرّيح دخان
ولماذا غدروا الحلم و قرط العاشقة
ولماذا استسلموا أو صعدوا خيط الوظيفة
فلمن تحكي إذن قصّة أشجان الطّفولة
إنّني أسأل سجّان الحمام
فلماذا لم يعد سحر الكلام خبزة أو مزرعة؟
ولماذا رموا ليلا مناديل اليمام بين كفّي غابة محترقة؟
ولماذا غلّقوا عشبة الروح في عزّ الظّلام؟
في الجهات السّت أعوي..
لماذا لم يخيطوا للنّساء جبّة الماء
وزهر الضّوء في ليل المصير؟
العصافير سماوات، و تفاح القرى يسرق في الفجر
وسحر نبيذ العمر يسقى للنّسوة في السّوق
وفي الحقل الذّي مدّ إلى الفلك الشّراع
حان لي يا أهل تيزي راشد الأفيون و الحمّى و أغصان الشّعاع
أن أُخرِج الكهف منّا
حان لي أن أهجر أسوأ الرّموز
حان لي أن أسحب التّاريخ من يأسه
حان لي أن أخلع خوفي من الوحش و قطّاع الطّرق
إنّني أهجر أقفاصا دفنوا فيها وعود الشّهداء
ورموا الرّمضاء لكي تدفأ أوتاد الخيام
للرّيح قلت : لفّني في ساعديك !
حان لي أن أختفي داخل نفسي ثمّ أمشي نحو سعديّة
في الفجر، وبذكر الحبّ تزداد الخطى عشقا و زهوا
وحوالي الدّار هوّمت و درت
وسألت النّار، و الجار، و ظلّ الطير، و الثّوب القديم
ثمّ لملمت حواسي
افتتحت الباب
في السّقف أطلت قربة عطشى، و أكوام الهشيم
أيّها الحبّ القديم لم يعد سحر الكلام
يرجع الموتى إلينا بعدما صاروا حطام.
تعليقات
إرسال تعليق