جمهورية جنوب السودان: مأزق الهوية واللّغة (2)
العدد: 66 التاريخ: 20/7/2011
بصرف النظر عن الجدل الدائر حول أعداد المسلمين والمسيحيين في دولة جنوب السودان وأن النسبة الأكبر من المواطنين السودانيّين الجنوبيّين هي فيما يبدو من اللادينيّين والوثنيّين (بحسب إحصاء مجلس الكنائس العالمي). فالأرجح أن التعددية الثقافية والّلسانية في هذا المجتمع، ستكون لا محالة جزءاً من تكوينه التاريخي، وأن الثقافة العربية بعنوانها وآليتها الّلغوية لن تشطب من الذاكرة الجمعية السودانية الجنوبية، ولا من جريرة لسانها وروحها. ويجب أن نعاين بإيجابية هنا ما كان يصرّح به سلفاكير أيام كان رئيساً للحكومة قبل إعلان دولة الانفصال: "لن يكون المسلمون في جنوب السودان مواطنين من الدرجة الرابعة أو الثانية. وإنّني كمسؤول رسمي سوف أحمي جميع المواطنين الجنوبيّين، وفي مقدمهم المسلمين".
يقول الباحث في العاميات السودانية د. عون الشريف قاسم في كتابه: "قاموس العامية السودانية": "إن الّلغة العربية كانت في حراك دائم وتلاحم متجدّد مع لغات أهل السودان. فهي استعارت من لغاتهم، وأعارتهم، حتى تكوّن ما يسمّى بالعامية السودانية التي لم تكن إلا كشكولاً للعربية الفصحى ولغات أهل السودان".
ويقول باحث سوداني آخر هو د. أوشيك آدم: "منذ الاستقلال، وإلى عهد قريب، كان الاتجاه العام في السودان هو تغليب الثقافة العربية على ثقافات أهل السودان الأخرى من ذوي الأصول غير العربية. وهذا الاتجاه كان يجد دعماً غير محدود من الدولة التي كانت تُسخّر كلّ إمكاناتها ومؤسّساتها التعليمية لتجذير هذا المفهموم. والادعاء بأن هذه السياسة هي صنعة استعمارية، إنما هو قول مردود وغير دقيق لواقع معاش، فالمعروف عن الاستعمار الإنكليزي تحديداً، أنه كان دائماً في حرب شرسة ودؤوبة لتقليص تمدّد الثقافة الإسلامية- العربية، ليس في السودان وحده، وإنما في جميع مستعمراته التي توجد فيها مثل هذه الشرائح الثقافية والدينية".
تجربة جيبوتي
ومن الجدير بالإشارة هنا أنه إذا كانت الّلغة الرسمية في جيبوتي، (الدولة المنتسبة إلى عضوية الجامعة العربية) هي الفرنسية، فإن حكّامها والقبائل فيها لم يعادوا يوماً لغة الضاد، ولا الّلهجات الطالعة من رحمها. وباتت السلطة الرسمية الجيبوتية تدرسها اليوم وبكثافة ملحوظة، من باب الحفاظ على الهوية والكيان، وتمهيداً لتحلّ محلّ الفرنسية في الشؤون الرسمية والإدارية لاحقاً، من غير إقصاء طبعاً للفرنسية كلغة ينبغي أن يتعلّمها من يريد من الجميع. والمعروف أن جيبوتي مؤلفة من قبيلتين عربيّتين مركزيّتين هما العفر والصومالية، وفي البلد أيضاً مواطنون من أصول فرنسية وإيطالية وألمانية، فضلاً عن أفارقة أثيوبيّين وأريتريّين... والكلّ لا يتّخذ موقفاً عنصرياً من الّلغة العربية ولا من الّلهجات القبائلية المحلية... ويعرف الجميع في جيبوتي اليوم أن الاستعمار الفرنسي حاول ضرب الشخصية الثقافية والدينية والّلغوية للجيبوتيّين، لكنه لم يفشل فقط، بل جعل من سياسته الكيدية تلك سبباً إضافياً لكي تنتشر أكثر "لغة" العربية الصومالية ومعها تالياً "لغة" عفار.
ولربما كان على كلّ مسؤول جنوبي سوداني أن يقتدي بتجربة جيبوتي في هذا المقام. فلا يستعدي جزءاً كبيراً من مواطنيه بإقدامه على الإلغاء الممنهج للّغة العربية في بلاده، أو يتجاهل حقوق المسلمين من مواطنيه في شعائرهم وشخصيتهم الدينية والثقافية والحضارية، خصوصاً أن قادة "الحركة الشعبية لتحرير السودان" كانوا أعلنوا للجميع، إنهم رجال دولة ديمقراطية علمانية ستتيح لجميع المواطنين حرية التعبير والرأي والمعتقد...إلخ.
وعلى الدولة السودانية الحديثة العهد إذا أرادت أن تنهض بقوة وثبات وسلاسة، أن تتعامل مع جيرانها، وفي المقدمة منهم الدولة الأم، بقدر من التفاهم على الملفات العالقة وتلك التي ستستجد بالتأكيد.. ومنها الملف الثقافي الذي لا يستهان به.
سياسات ضارة
ولعلَّ التحدّي الذي تواجهه جمهورية جنوب السودان الجديدة هو كيفية تفادي النزاعات الانقلابية والانفصالية في البلد الأم الذي انفصلت عنه. ويقصد هنا بالتحديد متمرّدو دارفور، حيث يقال صراحة إن رموزاً في "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، ما زالت تنسق حتى الّلحظة مع زعماء متمرّدي دارفور من أمثال عبدالواحد نور، وخليل إبراهيم، وغيرهما من الذين لا يجاهرون بسعيهم لتقويض بلدهم السودان الشمالي فقط، بل يتعاونون بذلك مع ألدّ أعداء السودان والعرب: إسرائيل. يقول عبد الواحد نور: "زرت إسرائيل بهدف مقابلة المئات من أعضاء حركة تحرير السودان هناك وشاركناهم في حوار مهمّ حول التنظيم والمكتب في إسرائيل والقضية السودانية". وعندما سُئل عن التطبيع مع إسرائيل أجاب بالحرف الواحد: "التطبيع نوعان، ثمة تطبيع اجتماعي، وللعلم فالسودانيون الموجودون في إسرائيل هناك منهم من تعلّم الّلغة العبرية ومن دخل الجامعات والبعض فتح المطاعم والمتاجر، وتزوج من إسرائيليات، بمن فيهم القادمون من الشمال النيلي... أما التطبيع الثاني فهو سياسي، ونحن معه، وسوف نفتح سفارة إسرائيلية في الخرطوم مقابل فتح سفارة لنا في تل أبيب، لأن السياسة والواقع يفرضان علينا ذلك".
ثم إن سلفاكير ميرديت نفسه رئيس دولة جنوب السودان كان قد قال كلاماً صريحاً في خطاب احتفاله بالاستقلال، أكّد فيه دعمه لمتمرّدي دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، الأمر الذي استفزّ حزب المؤتمر الحاكم في الخرطوم، وجعله يُصدِر رداً ينمّ عن امتعاض شديد من الرئيس الجنوبي الذي بدأ يتدخّل في شؤون دولة شمال السودان من أول الطريق.
كما أكّد سلفاكير دعم دولة جنوب السودان لجبهة البوليساريو ممثلةً بعبد العزيز المراكشي في أثناء وجود هذا الأخير في احتفالات إعلان استقلال جمهورية جنوب السودان، ما أغضب الجانب الرسمي المغربي. واعتبره تدخلاً غير مقبول أيضاً بالشؤون الداخلية للمملكة المغربية.
مثل هذه السياسات صراحة لا تخدم حاضر ولا مستقبل دولة جنوب السودان، خصوصاً أنها لم تبدأ بعد بتدشين آليات عملها كدولة حديثة، ينبغي أن تراكم تجارب حيادية في العلاقات مع الخارج، وأن تنصرف إلى بناء الداخل وتحدّياته.. على الأقل من باب إثبات الوجود وحلّ الملفات العالقة مع الشمال، وفي مقدّمها النزاع على النفط في منطقة "أبيي".
جدير بالذكر أن أهل الجنوب ليسوا كلّهم مع الانفصال، بل أن قطاعاً واسعاً من المواطنين الجنوبيّين لا يزال يؤيد استمرار الوحدة مع الشمال، الأمر الذي يؤدّي، في ما إذا أقدمت دولتهم الجديدة على توطيد علاقاتها السياسية والثقافية مع الدول الأفريقية الأخرى غير العربية، من ضمن ما يسمّى سياسة الأفرقة الخالصة، فإن هذا يحمل خطر قيام صراعات سياسية وثقافية وحروب أهلية بين القبائل الجنوبية لا حصر لها، وخصوصاً هنا بين قبيلة "الدينكا"، أكبر قبائل السودان (3 ملايين نسمة وتسيطر على مقاليد الحكم في الجنوب)، وبين قبائل أخرى متعدّدة الانتماءات العرقية والدينية من مثل الجور والرونق واللاتوكا والتبوسا والباريا وغيرها من قبائل كثيراً ما دخلت في صراعات وحروب سابقة مع قبيلة "الدينكا".
صراع هويات
إن الوضع الداخلي في دولة جنوب السودان ليس وردياً كما قد يتصوّر البعض، وليس هو بالتالي مرشحاً للاستقرار إذا لم تكرّس حكومة سلفاكير نفسها لخوض سياسات متوازنة بين قبائل الداخل ودول الخارج. فسياسة الأفرقة الخالصة على حساب دولة شمال السودان ذات التوجّهات العربية- الإسلامية مثلاً (وسائر الدول العربية والإسلامية في إفريقيا وخارجها مثلاً) سوف لن تفيدها بالتأكيد، وستتركها دولة جديدة عرضة لنزاعات وحروب لا نهاية لها.
باختصار إذاً، وعلى الرغم من قيام دولة الجنوب، فإن الصراع بين الشمال والجنوب مرشحٌ للتفاقم في السودان. وهو في جوهره صراع "هويات" إثنية ودينية يغذيه الخارج الاستعماري الغربي، ومعه إسرائيل بالطبع، بهدف تقسيم السودان، ليس إلى دولتين فقط، بل إلى ست دول متناحرة متنابذة في ما بينها، وبما يهدّد ذلك كلّه بالطبع، الأمن الاستراتيجي العربي، وبخاصة لمصر المجاورة، ومعها دول الشمال الإفريقي العربي..
والسؤال الآن: هل ستنضمّ جمهورية جنوب السودان إلى عضوية دول الجامعة العربية؟
عن هذا السؤال يجيب بالتأكيد المواطنون الجنوبيّون السودانيّون من خلال ممثليهم في السلطة.. كما تجيب عنه طبعاً الجامعة العربية نفسها، والتي تمرّ بظروف كيانية صعبة.
تعليقات
إرسال تعليق