/ أحمد بلقمري: مدينة الحزن ووجع اللغة

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحمد بلقمري: مدينة الحزن ووجع اللغة

أحمد بلقمري: مدينة الحزن ووجع اللغة
" لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم"، وجع الكتابة يلتقي مع بوح الذات ،همس مؤسس على زمن يحتفي بالتعدد.. حيث لا ثبات ولا قرار.. ذلك ما وجدناه في نص الشاعر الجزائري المبدع أحمد بلقمري . فما يقوله النص؟.
العنوان: " مدينة الحزن "، يتشكل العنوان من ملفوظين: مدينة + الحزن، فالمدينة هي المكان الذي يحمل هوية التعقيد، الفوضى وهي التطور و المعبرة عن الفقدان: فقدان الطمأنينة و السكينة. إذ الراحة هي رمز الصخب و التعب و الإرهاق و الكآبة النفسي.. وتأتي اللفظة الثانية " الحزن " لتؤكد هذه المعاني، إذ هي مضافة للفظة الأولى و بالتالي تصبح لازمة تتبعها، فأينما حلت المدينة يحل الحزن و الاكتئاب و الألم و الهم و الوجع الصامت، فكأن مدينة الشاعر قد تخلت عن كل ملامحها المادية لتعوضها بهذا الشعور الكامن في دواخل أهلها فتصطبغ بهوية تتأسس على الوجع، أو أن هذا الحزن في حد ذاته أصبح مدينة قائمة داخل النص، ومن ثمة تصبح اللغة موسومة بالألم ومسكونة بالكآبة..


لا أدري كيف وصلت المدينة..
حاملا حقيبة ضاجة بالضجر
حازما أمري كي لا أعود إلى زمني المستتر
أسوق خطاي مؤمنا بالقدر
يبدأ الشاعر نصه بلحظة مضارعة منفية، إذ يعبر عن زمن ساكن بالضياع هارب من التحديد، فالذات/ اللغة تعكس تأزمها في غياب الطريق و الملامح و الهدف، حيث يحمل مستقبل القصيدة في طلبها شعورا بالضجر من عبء الماضي ورغبة في التحرر منه حينما كانت الذات تغيب وراء سلطة اللغة/النص.. لكن هذا التغيير يفرضه واقع الحال، وليس نابعا من الذات ورغبتها الأصيلة وهذا ما يجعل التحرك مساقا من قبل القدر، ومن هنا يصبح قدر اللغة/النص التغيير.
وصلت وقد أنهكتني الطريق
وصلت وحالي كحال الغريق
سألت المدينة ما بالك صامتة ؟
لماذا هذا الحزن في عينيك ؟
يصطدم النص/الذات بقيم مغايرة إذ تعوم المعايير في بحر الغرابة و التعقيد، وتغرق في جو من الكآبة، ومن ثمة تساءل هذا الزمن المستعار عن سر تغييب الحقائق وعن سر ارتيابها-أي اللغة- في ابتعادها عن البوح ولجوئها للصمت و التحافها بالحزن، فالنص/الذات بعد أن يلامس حدود المدينة/ التعقيد أو المدينة/الحداثة وما بعدها يعبر عن دهشة و استغراب ثم مساءلة اللغة عن سر تحولها.
ولأن سؤالي سخيف
لم تجبني المدينة..
رغم حزني أنا ورغم الضجر
بقيت أطوف بين الشوارع
أحمل بين يدي هدايا الفرح
و أيامي التي رافقتني راحت تشيع المرح
لكنني في غمرة الحزن اللعين حزنت
لم أجد من جواب..
هل أجابت اللغة التساؤل حول سر تيهها واضطرابها؟، يجيب المقطع بألا جواب، وكيف تجيب المدينة/ اللغة عن سر كينونتها وهويتها المغايرة ووجودها يتأسس على الغموض وعلى الجواب و اللاتحديد؟، ومن ثمة تبقى الإجابة يلفها التأجيل و الاستحالة، ويبقى النص التقليدي في بحثه الدائم عن الإجابة على السياق المحمل بالماضي يغالب صوت الحزن و الضجر، ومن ثمة فلحظته الآنية يشيع فيها همس التاريخ و الموروث مما يعكس تأزم الذات في عيشها بين لحظتين مختلفتين: لحظة النص التقليدي في عصر المدينة/اللغة المعقدة الضجرة، ومما يؤكد ذلك هو حضور الفعل في الزمنين الماضي و المضارع بشكل متتالي ( بقيت أطوف/ راحت تشيع)، ومن هنا يتراجع فرح الذات بذاكرتها المعبرة عن نقاء وصفاء اللغة بعد أن تتلبس بهوية المدينة /اللغة الجديدة، فتستعير خصائصها وتعايش الوجع المحمل من صفة الضياع وعدم الجواب.
لم أر في حياتي مثل حزن المدينة..
أدارت إلي المدينة بعض وجه
وقالت تخاطبني بالسؤال:
يا أنت ماذا تريد ؟
أجبت: أريدك أنت
أريد الحديث إليك
أمسح الدمع عن مقلتيك
تصافح القيم التقليدية المدينة/اللغة الجديدة وتحاورها علها تفلح في التخفيف من منطق الوحدة و التعقيد و الغموض الذي يلفها ليضفي عليها هوية واضحة، ففي لحظة الارتقاء/التحاور يتأسس الهمس فتنصت اللغة/المدينة لذلك الصوت الحاضر من التاريخ ومن الفطرة، فالنص ما بعد الحداثي يتأسس على زمن الرفض لكنه يلامس في مسافات الصمت و الفراغ بعضا من هوس الذاكرة ونفحات الماضي المغيب.
الأستاذة الدكتورة: غزلان هاشمي
أنا بعد حزني اتجهت إليك
هويت إليك..
أحث الخطى كي أراك
وكم في طريقي نجوت
نجوت أنا من هلاك
لكنني في النهاية تهت
بين شوارعك الصامتة
و ألوان جدرانك الباهتة
كأنك منتهى كلّ السواد
وتجدّد الذات/ النص اعترافها بمنطق الحزن الذي تنبني عليه اللغة وذلك التوتر الذي يصاحب بحثها عن نموذجها المكتمل، إذ طريقها محفوف بالمخاطر وهذا ما جعل اللغة تنجو من العدم لكنها تتأسس على التيه و الصمت وعلى هوية مشتتة تتلبس بالسواد وتلوذ بالصمت لتعبر عن الدّهشة و الألم، ومن ثمة فالنص/ اللغة يبدأ حزينا لينتهي حزينا.
 أيا مدينة الحزن..
أما وقد جئت إليك
تعالي إلي..
هاك يدي..
تعالي نواعد أنفسنا بالأمل
تعالي نعيش طفولتنا و الصغر
تعالي نداوي جراح الكبار
بقلب البراءة..
قلب الطفولة..
قلب الحياة..
بعد أن التمست اللغة طريقها نحو المغاير وتشكيل عالم مبدع ثائر على كل سائد وسابق، وقد وجدت في التعقيد و الفوضى و التشتت و التيه.. مغذيا لها، وبعد أن رحلت إلى الزمن المستعار "زمن المدينة" لتؤسس هويتها المختلفة أصبحت هي في موضع التأسيس، إذ استلمت الفعل من ذلك السياق واستدعته لتتمثله بعد أن كان هو الذي يتمثلها بل وتحاول تغيير مساره نحو تشكيل وعي مختلف يتأسس على الأمل و اللحظة المفرحة، وهذا الإلحاح أثبته الفعل المكرر "تعالى" في هذا المقطع و الذي ينادي لحظة المستقبل المكلل بالفرح( نواعد- نعيش- نداوي...)، وينتهي من ثمة النص/اللغة إلى الانزياح نحو تشكيل عوالم مغايرة بعيدة عن تعقيد المدينة وحزنها، إذ تحمل في ثناياها وعدا بالأمل وعدا بالانتصار ( قلب البراءة. قلب الطفولة. قلب الحياة...).
بقلم : غزلان هاشمي/ أستاذة جامعية
نشر في موقع مجلة أصوات الشمال  بتاريخ : الثلاثاء 18 شعبان 1432هـ الموافق لـ : 2011-07-19
هل أعجبك الموضوع :

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. الأستاذة القديرة غزلان هاشمي
    تحية طيبة وبعد
    اسمحي لي بداية أن أطلق عليك لقبا يليق بمقامك، سأسميك سيدة مقام النقد الأدبي في الجزائر، و أنا مقتنع تماما بعد متابعتي لما قدمته من محاورة لنصوص المبدعين أنك ستتربعين على عرش النقد الأدبي في الجزائر لسنوات قادمة بإذن الله لأن الطريق أمامك بدأت تتضح حدودها و بان مداها.. أما الأستاذ عبد الله كروم فسيكون هو الآخر ذو شأن عظيم في النقد الأدبي ودعينا أطلق عليه لقب: الناقد الأول و سيليق به هذا اللقب أيضا..
    يا سيدة مقام النقد، و أنا أرى نصي بعيون الناقدة المتبصرة و كأنني أرى وجهي في المرآة، الآن شعرت بما قاله فيك الأساتذة الكرام الميلود شويحة و السعيد موفقي وغيرهم يوم لامست نصوصهم وحاورتها..يقول ميخائيل نعيمة في كتابه (الغربال):
    "إن لكل ناقد غرباله، لكل موازينه ومقاييسه، وهذه الموازين والمقاييس ليست مسجلة لا في السماء ولا في الأرض، ولا قوة تدعمها وتظهرها قيمة صادقة سوى قوة الناقد نفسه، وقوة الناقد هي ما يبطن به سطوره من الإخلاص في النية والمحبة لمهنته، والغيرة على موضوعه، ودقة الذوق، ورقة الشعور، وتيقظ الفكر، وما أوتيه بعد ذلك من مقدرة البيان لإيصال ما يقوله إلى عقل القارئ وقلبه..فالناقد الذي توفرت له مثل هذه الصفات لا يعدم أناسا ينضوون تحت لوائه، ويعملون بمشيئته فيستحبون ما يحب، ويستقبحون ما يقبح، وهو وراء منضدته سلطان تأتمر بأمره، وتتمذهب بمذهبه، وتتحلى بحلاه، وتتذوق بذوقه ألوف من الناس إذا طرق سبيلا سلكوه، وإذا صب نقمته على صنم حطموه ...
    هذا الكلام يليق بك لذلك سأقول مثلما قال نعيمة، أستاذتي الكريمة: أنت ناقدة قوية، ذات مهنية، مخلصة النية، ذوقك دقيق، وشعورك رقيق، وفكرك رشيق، وبيانك عقيق، فاسمحي لي يا سيدة المقام أن أختم بهذا الدعاء لك: اللهم زد أستاذتنا الكريمة غزلان هاشمي علما على علم وفهما على فهم، اللهم بارك فيها ولها، اللهم زدها و لا تنقصها، اللهم آمين يا رب العالمين..
    الذي يقدر جهدك وتعبك، الأخ: أحمد بلقمري.. خالص مودتي

    ردحذف

إرسال تعليق

التنقل السريع