أسئلة المصير الإنساني ومخاوفه
العدد: 71 التاريخ: 1/8/2011
ينشغل العالم من خلال منظمته الأممية الأكبر "الأمم المتحدة" بالبحث عن حلول للمشكلات التي أنتجها التقدم الصناعي، وبخاصة في المجال النووي، كالتغيرات المناخية على سبيل المثال، وهي أسوأ النتائج السلبية التي لم يحسب لها التقدم الصناعي حساباً، وقد كان السؤال الذي وصفته اليونسكو على قائمة اهتماماتها في السنوات الأخيرة هو التالي: ما هو مستقبل الجنس البشري، وما هو مستقبل الكوكب؟ هذا السؤال أسهم في الإجابة عنه علماء ومسؤولون كبار وشخصيات عالمية شاركوا في أعمال مؤتمر اليونسكو في العام 2006 وأصدروا في ختامه بياناً يصف الحالة المخيفة لكوكب الأرض ضمّنوه نداءً إلى الإنسانية جمعاء بضرورة بناء حضارة إنسانية جديدة. كما ألقى المدير العام لمنظمة اليونيسكو الدولية كويشيرو ماتسيورا خطاباً في المؤتمر الذي انعقد آنذاك حول "الأزمة الأيكولوجية العالمية الأولى" لفت فيه الانتباه إلى الوقائع التالية:
- تفاقمت مخاطر الكوارث الطبيعية خلال السنوات العشر الأخيرة، فقتلت 900 ألف شخص وأرغمت 2,6 مليارَيْ شخص على الإقامة في مناطق ذات مخاطر عالية أو ذات رطوبة مناخية مجلبة للأمراض.
- تخطّى التزايد السكاني قدرات الأرض على استيعاب التلوّث وعلى تجديد نفسها، فالعالم يستهلك اليوم ما نسبته 1,2 من الأرض، في حين أن ما هو متوافر منها لا يتجاوز 1%، بحسب ما يقول ماتيس واكرناجل Mathis Wackernagel المدير التنفيذي لـ "غلوبال فوتبرنت نتوورك" (Global Footprint network).
- يشهد التنوّع في المجال الحيوي للأرض أزمة كبرى ناشئة عن زخم الأنشطة البشرية: فبعض الجماعات البشرية التي تعيش في جبال هملايا باتت تلقح الأشجار باليد عوضاً عن التلقيح الطبيعي الذي يتمّ بوساطة الحشرات والرياح. بحسب التقرير الذي أعدّه باحثون في جامعة مك جيل McGill في مونتريال في كندا، وعلى رأسهم أستاذ الأيكولوجيا ميشال لورو Michel Loreau.
- تضاعف عدد سكان العالم 4 مرات خلال القرن المنصرم، في حين أن استهلاك الطاقة والمواد الأولية زاد بنسبة 10%.
- يغطّي التصحّر ثلث الأراضي على الكرة الأرضية، وسيبلغ عدد المتضررين جراء ذلك في العام 2025 مليارَيْ شخص، و3 مليارات شخص في العام 2050 (بحسب ما يقول جان مارغا Jean Margat نائب رئيس مؤسسة المياه المتوسطية). كما ستزداد حدّة التفاوت بين المناطق الجغرافية تحت وطأة التفاوت في توزيع هطول الأمطار بينها.
- الغابات الاستوائية التي تضمّ ما يتراوح بين 70% و 90% من التنوّع الحيوي القاري آخذةٌ في الانقراض، خدمةً لأغراض ومصالح البلدان الغنية التي ـ علاوةً على ذلك ـ تستغلّ السكان المحليين الفقراء الذين يزدادون فقراً عاماً بعد عام، بحسب ما ورد في تقرير أعدَّه عددٌ من البعثات العلمية نسّق أنشطتها وأشرف عليها عالِم النباتات فرنسيس هالّيه Francis Hallé.
- يفوق حجم النفايات في العالم قدرة كوكب الأرض على استيعاب التلوّث وامتصاص القاذورات وتحويلها إلى مواد عضوية.
- في آسيا وحدها يموت جرّاء التلوّث 1,56 مليون شخص سنوياً.
- تنقرض الأجناس الحية بوتيرة تفوق 100 ضعف الوتيرة المألوفة في تاريخ البشرية.
أكثر من نصف سكان العالم يخشون على مصيرهم وعلى مستقبل أبنائهم؛ فقد أظهرت نتائج استطلاع أجراه "الفوروم (المنتدى) الاقتصادي العالمي" (Forum économique mondial) في العام 2009 أن 45% من سكان كوكبنا يخشون على أبنائهم من تدهور حالة الأمن المتفاقم في العالم. هذا التشاؤم نجده أكثر حدةً في أوروبا الغربية حيث تصل النسبة إلى 55% في حين أن 50% من الناس الذين استُطلِعت آراؤهم في أفريقيا يستبشرون بغدٍ باسم، على الرغم من أنها كانت مسرحاً للنزاعات والحروب والكوارث الطبيعية خلال العقدين الأخيرين.
خمس سنوات قبل مؤتمر كوبنهاغن الأخير (الذي بقيت جوانب كثيرة من الموضوعات التي طُرِحت فيه سريةً!) قدّمت الأمم المتحدة برنامجها المعروف باسم PNUE الذي يعدد المخاطر الناشئة عن تقدّمٍ صناعي لا يحفل بما يتسبب به من نتائج سلبية ويكشف مدى اتساع التشويه الذي أحدثه النمو الاقتصادي والديمغرافي خلال السنوات الثلاثين الماضية والذي لم تشهد البشرية مثيلاً له في تاريخها. ثم صدر في لندن لمناسبة اليوم العالمي للبيئة (5 حزيران/ يونيو 2005) كتاب أطلس التغيرات البيئية (Atlas of our chinging environment) الناجمة عن التقدّم الصناعي.
في الوقت نفسه لا ينفك "الاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة" (IUCN) الذي يضمّ ثماني من كبريات المنظمات الدولية لحماية البيئة، يطلق صرخات التحذير من أن الكوارث الطبيعية ستستمرّ في التزايد، بحسب خط بياني متصاعد، إن لم يبدأ العمل الجاد على الحدّ من ارتفاع حرارة الكوكب الناجم عن غازات الكربون المنبعثة من شتى أنواع الطاقة التي تسيّر المدنية الحديثة وتتراكم في الطبقة الحية (طبقة البيوسفير) من غلاف الأرض الجوي. ويطالب هذا الاتحاد بإلحاح بالعمل على الحيلولة دون ارتفاع المتوسط العام لحرارة الأرض درجتين مئويتين إضافيتين بالقياس إلى ما كان عليه متوسط حرارة الأرض في العصر ما قبل الصناعي. ويقول كلود مارتِن، المدير العام لصندوق النقد الخاص بالطبيعة (WWF): "إذا ارتفعت حرارة الأرض درجتين أيضاً، فسيدخل كوكب الأرض عصر فوضى الكوارث".
60% من الألمان طالبوا حكومة أنخيلا ميركيل (في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي) بالاستغناء عن الصناعات النووية على الرغم من كونها إحدى قمم التقدّم التكنولوجي، وذلك بسبب ما تطرح من مشكلات ناجمة عن النفايات النووية (تحتفظ النفايات النووية بحرارة تفوق أربعمئة درجة لمدة زمنية تفوق عشرين سنة) وتفوق ربما ما توفر من خدمات، وكذلك بسبب الدرس الذي لقّنه انفجار مفاعل تشيرنوبيل النووي (1986) للعالَم والذي حفظه الألمان ربما أكثر من الشعوب الأوروبية الأخرى، فإن المشكلات التي تطرحها قمة أخرى من قمم التقدّم العلمي/ التكنولوجي الذي أحرِز في ميدان الأبحاث الوراثية والجينية هي إتلاف الزراعة الطبيعية والثروة الحيوانية واستبدالها بزراعة صناعية تهدف إلى الإنتاج الغزير على حساب النوعية والجودة طلباً للمزيد من الأرباح المالية، وتشمل المزروعات والدواجن والمواشي والأسماك. ومن قمم التقدّم العلمي/ الصناعي الأخرى كلّ ما يعتمد الطاقة الأحفورية لتحويلها إلى غازات كربونية تتلف البيئة (الماء والهواء والتربة) بالتلوّث من جهة أولى وبإتلاف الموارد الطبيعية من جهة ثانية.
بطبيعة الحال، تاريخ البشرية حافلٌ بتغيرات بيئية ولا يقول المؤرخون بأن الطبيعة بقيت على حالها على مرّ العصور، فالمجتمعات غيّرت محيطها البيئي بمقدار التقنيات التي تمتلكها (منذ اكتشاف النار ثم اكتشاف الزراعة وما أحدثه كلٌّ من هاتين التقنيتين من تغيير بيئي..) لكن التغيير بقي محصوراً في أماكن محلية وحدث ببطء، أما التغييرات التي أحدثتها الثورة الصناعية والتي تسارعت وما زالت تتسارع بوتيرة جنونية فتتميز بالسرعة والشمول والاتساع: لم يبقَ شبرٌ واحد على سطح الأرض لم تمتد إليه يد الاستثمار الصناعي (أي إتلاف البيئة) ففي العام ألفين واثنين كانت نسبة مساحة الأرض التي وضع الاستثمار الصناعي يده عليها تبلغ 83% بحسب ما يقوله فريق من الباحثين تحت إشراف إريك ساندرسون نشرت أعمالهم مجلة Bioscience (2002). ويتلخص خطر هجوم التقدّم الصناعي بأنه يهدّد قدرة المجال الحيوي ("إيكوسيستام" écosystème) للأرض على تقديم خدماته الطبيعية (الماء والغذاء والهواء) للمجتمعات البشرية ويحطم النظام الطبيعي للحفاظ على تنقية الخدمات التي يقدمها. ثمة قضية أخرى هي قضية التسمم الكيميائي المعمّم على كلّ البيئة الأرضية، فهو لا يوفّر منطقة في العالم ويشمل المنتجات الغذائية الملوثة بمواد كيميائية، بمقادير ونسب متدنية، كما يشمل المحيطات، أكبر خزان لحفظ التوازن في النظام البيئي (إيكوسيستيم)، وكان يُظنّ أن طاقتها على تجديد التوازن البيئي لا تنفد، لكنها آخذة بالنفاد بسبب تعاظم التلوّث من جهة أولى، وبسبب الخلل الذي يُصيب هذا النظام أو ذاك من أنظمة توازنها الخاص من جهة ثانية.
يختصرالمهدي المنجرة، سفير المغرب في الأمم المتحدة، في كتابه "قيمة القيم" خشية العالم من مفاعيل التغيرات المناخية ومآل التطور التكنولوجي وأثرها التدميري على البشرية بقوله: "كان يُخشى على الإنسان في مستهلّ عهده وعصور البشرية الأولى أن يفنى بسبب الكوارث الطبيعية واليوم يُخشى على الطبيعة أن تفني بسبب الإنسان". لكن هذا القول هو اختصار لأبحاث علمية واسعة ورصينة تدرس التحوّلات التي أحدثها الإنسان خلال السنوات الثلاثين الأخيرة وأثرها على البشرية جمعاء.
يقول الباحث الفرنسي في شؤون البيئة هيرفي كمف Hervé Kempf في مقالة تنشرها مجلة "بدائل"، الصادرة في بيروت في عددها المقبل (شتاء 2011) مترجَمَةً إلى العربية، إن الخبراء في تدهور أوضاع البيئة الذين يرون أن كارثة انقراض، هي السادسة في تاريخ البشرية، تحدث في عصرنا هذا، بعد كارثة الانقراض الخامسة التي شملت الديناصورات والتي حدثت قبل ملايين السنين، وتشمل انقراض أجناس حيّة على نحو متسارع، يأملون في إنقاذ تلك الأوضاع ويراهنون على الإبطاء في وتيرة النموّ الصناعي؛ لكن الباحث يُضيف أن ذلك غير ممكن لسببين، أولهما أن أصحاب السلطة الاقتصادية والمتربعين على سدّة الحكم في العالم لا يوافقون على هذا الإبطاء لأنهم يرون فيه خطراً يهدد بنية الإنتاج الصناعي الرأسمالي بالانهيار، وثانيهما أن الممسكين بزمام الأمور الاقتصادية والمالية والسياسية في جميع مجتمعات العالم يروّجون لنمط استهلاكي قائم على التبذير والإسراف المتمادي المدمّر للطبيعة والذي ينتقل بالعدوى إلى الطبقات الوسطى التي تقلّد من هم أرفع منها في سلّم التراتب الاجتماعي وهرم السلطة ليصبح "قيمة" عامة تستبطنها العامة من دون أن تقوى على نقدها أو الوقوف في وجهها. فبين عشرين وثلاثين في المائة من السكان يستهلكون ما يتراوح بين سبعين إلى ثمانين في المائة من الموارد التي تُنتزَع من المحيط الحيوي لكوكبنا (الـ"بيوسفير"). هذه الشريحة السكانية بالذات، أيْ سكان أميركا الشمالية وأوروبا واليابان، أبناء المجتمعات المتطوّرة والغنية، هي التي عليها أن تحجّم استهلاكها. ويخلص الباحث إلى أن مجابهة الكارثة البيئية (الأيكولوجية) المُحيقة بنا تقتضي تقليص الاستهلاك وتوسيع نطاق توزيع الثروة على فئات المجتمع. لكن كيف السبيل لوضع سياسات وتشغيل آليات لتحقيق مثل هذا الهدف الكبير؟
تعليقات
إرسال تعليق