/ البلدان الفقيرة.. تنمية من دون نموّ

القائمة الرئيسية

الصفحات

البلدان الفقيرة.. تنمية من دون نموّ

 

البلدان الفقيرة.. تنمية من دون نموّ
   العدد: 92   التاريخ: 19/9/2011
منذ ظهور عبارة العالم الثالث في كتابات الاقتصادي الفرنسي ألفرد سوفي Alfred Sauvy في العام 1952 والنقد لا يزال ينصبّ على هذه العبارة نظراً لعدم تجانس البلدان التي يُشير إليها وإلى وجود عوالم متباينة داخل هذا العالم. لكن مُطلِق العبارة قصد بها في الأساس تمييز باقي العالم عن العالَمين الرأسمالي (أوروبا الغربية والولايات المتّحدة واليابان) والعالَم الاشتراكي (كتلة الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية الديمقراطية). ثم ما لبث علماء الاقتصاد الغربيّون أن قسّموا عوالِم العالم الثالث تقسيمات أخرى تبعاً لمعيار التنمية الحاصلة في كلّ بلد من بلدانه، وأطلقوا عليها تسميات مثل: بلدان فقيرة، وأقل فقراً، ونامية، وأقل نمواً، وسائرة في طريق النموّ..إلخ.
غير أن معنى "التنمية"، اقتصر في أدبيات الاقتصاد السياسي الحديث، على مسار اقتصادي/ سياسي بعينه، واقتصر معناها، في البلدان المصنَّفة "متخلفة" دون سواها، على النموّ في الميدان الاقتصادي وحده، وفي الوجهة التي فرضتها سياسة السوق الرأسمالية ومتطلّباتها في هذا الميدان. لكن النموّ في الجانب الاقتصادي وحده أسفر عن خلل كبير في تطوّر تلك البلدان. حتى أن بعض الباحثين الاقتصاديّين أطلقوا عبارة "تنمية من دون نموّ" على سياسات "التعاون والتنمية" التي كانت الدول الغربية تتَّبعها في التعامل مع البلدان الفقيرة: ففي بحث مطوَّل بعنوان "تنمية بلا نموّ في البلدان الفقيرة" (Une croissance sans développement dans les pays pauvres ) يقول سباستيان فارْسي Sébastien Farcisإن الدول الـ 50 الأقلّ تطوّراً في العالم (المجموعة المعروفة باسم PMA) التي يقع أكثر من ثلثيها في أفريقيا الصحراوية، عرفت في العام 2004 أعلى نموّ في ناتجها المحلّي خلال السنوات الـ 20 السابقة، فقد بلغ متوسط نموّه 5,9%. وقد جاء في التقرير الصادر عن مؤتمر التجارة والتنمية (Cnuced) التابع للأمم المتّحدة في 20 تموز/ يوليو الماضي، أن النموّ في هذه الدول، وأكثر ممّا في سواها، لا يكون بالضرورة مرادفاً للتنمية؛ فقد بيّنت هذه الهيئة التابعة للأمم المتّحدة أن هناك تفاوتاتٍ هائلةً بين بلدان هذه المجموعة، في ما وراء تلك الفورة الاقتصادية. فالزيادات الأساسية في النموّ والصادرات (وقد ارتفع حجمها خلال سنة واحدة 5 أضعاف ما كانت عليه) تركَّزت في 4 بلدان منتِجة للنفط أفادت كثيراً من ارتفاع أسعار النفط الجنوني، وهي: أنغولا، غينيا الاستوائية، اليمن والسودان.
لم يظهر مفهوم "التنمية المتوازنة" إلا بعد الكوارث التي حلّت بالبلدان الفقيرة، نتيجة اختلال توازنها الداخلي، ليشمل معنى التنمية عندئذ نمواً متوازياً في جوانب المجتمع كافة، من تعليمية واقتصادية وسياسية وسواها ولا يقتصر على الجانب الاقتصادي وحده. فالتنمية ـ بالمعنى الشائع للكلمة ـ هي زيادة الناتج المحلي الخام (PIB)، أي كمية الثروات (الخيرات والخدمات) التي يُنتِجها بلد ما خلال فترة قصيرة محدّدة بفصل من السنة أو بسنة كاملة. بهذا المعنى لا تكون التنمية بالضرورة رفعاً لمستوى العيش في مجتمع معيّن، من جوانبه كافة.
في العالم العربي اختلطت الأوراق في نظر صندوق النقد الدولي ابتداءً من مطلع العام الجاري مع بدء "الثورات العربية" المعروفة بـ"الربيع العربي". لكن الصندوق يراهن بالأحرى على نتائج إيجابية من وراء تحويل تلك الثورات إلى أوضاع اقتصادية أفضل في البلدان العربية التي حدثت فيها؛ فمجموعة "الثمانية الكبار" وعدت بدفع مساعدات لتونس ومصر بقيمة 32 مليار يورو حتى العام 2013. غير أن صندوق النقد الدولي يرى أن مجموع البلدان العربية بحاجة إلى مساعدة قدرها 160 مليار يورو في السنوات الثلاث المقبلة. وتقول وزيرة الاقتصاد الفرنسي كريستين لاغارد، وهي المرشحة لرئاسة صندوق النقد الدولي بعد دومينيك ستروس كان، إن الثورات العربية جعلت الغموض يكتنف الحالة الاقتصادية في البلدان العربية التي قامت فيها، وتقلق الدول الأعضاء في الصندوق. غير أن دول الصندوق متفقة على مجابهة موجة التضخم التي واكبت "الثورات" في البلدان العربية.
خصّصت مجلة العلوم الاجتماعية Sciences Humaines عددَها الأخير (رقم 206، تموز/ يوليو 2006) للبحث في مشكلات التنمية تحت عنوان "إعادة النظر في التنمية" (Repenser le développement) لتبيّن أن دراسة استراتيجيات التنمية في البلدان السائرة في طريق النمو تُظهِر أن البلدان التي نجحت في السير على هذا الطريق التزمت عدداً معيّناً من الخطوات والقواعد المشتركة. لكنها تُظهِر أيضاً أن أساليب وضعها موضع التنفيذ شديدة التنوّع ومرهونة بالظروف والسياقات المحلّية لكلّ بلد من البلدان المعنيّة.
في البلدان المتطوّرة ازداد مدخول الفرد بنسبة 2,3% في السنة بين العامين 1960 و2000. نادرة هي البلدان السائرة في طريق النموّ التي تنجح في تجسير الفجوة التي تفصلها عن البلدان المتطوّرة. غير أن بلدان جنوب شرق آسيا شذّت عن القاعدة؛ فعلاوة على الصين، عرفت تلك المنطقة، في الفترة نفسها، نمواً سنوياً في الناتج المحلّي بنسبة 4,4%. وعلى الرغم من الأزمة المالية التي شهدتها المنطقة، فقد تمكّنت تايلاند وماليزيا وكوريا الجنوبية من الوصول في نهاية القرن الماضي إلى تحقيق نسبة إنتاجية تجاور نسبة إنتاجية الدول المتقدمة. أما الصين فقد سجّلت منذ نهاية السبعينيّات نسبة نموّ بلغت 8%.
واللافت في أدبيات العلوم الاقتصادية الحديثة أن التسميات والمفردات التي تستخدمها تشيع وتُطبَّق من دون أن يتطابق مدلولها مع الوقائع الاجتماعية الفعلية والوقائع الاقتصادية للمجتمعات التي تستخدمها أو تطبَّق عليها. كأن تقسَّم المجتمعات والبلدان الواقعة خارج دائرة أوروبا الغربية والولايات المتّحدة واليابان الرأسمالية، وهي الدائرة المصنّفة طليعة التقدّم الحضاري والتطوّر الاقتصادي، تُقسَّم إلى: بلدان متخلّفة (وفي عدادها من البلدان العربية، الصومال واليمن..)، وأخرى نامية، وسواها صاعدة، وغيرها في طريق النموّ..إلخ.فتعدّدت تسميات البلدان التي بقيت خارج منظومة البلدان الرأسمالية،لأن تاريخ تطوّرها الاقتصادي سار في خطّ مغاير لخطّ تطوّر البلدان الرأسمالية، وتغيّرت بتغيّر المتطلّبات التي كان يقتضيها تبدّل أحوال تلك البلدان من حال إلى حال.
يأخذ الناس بعامة معنى المفردات والمصطلحات الاقتصادية بالمعاني الشائعة لغوياً لها بوصفها مفردات لغوية اعتيادية، في حين أن مدلولاتها مستمّدٌّة من علم الاقتصاد. فقد كانت تسمية العالم الثالث حيادية في بادئ الأمر تمييزاً لكلّ دول العالم عن مجموعتَيّ الدول السوفياتية التي اعتمدت رأسمالية الدولة، والغربيّة التي اعتمدت الرأسمالية الّليبرالية، والتي وُصِفت بـ"المتقدمة" بالنظر إلى غناها المادي الفاحش الذي جنته من تضافر الثورة الصناعية والحركة الاستعمارية في آن معاً فكانت تنهب المواد الأولية التي تحتاجها صناعتها من العالَم المستعمَر، وتصدّر إليه نتاجها الصناعي فتبهره اقتصادياً، وتستتبعه بالتالي سياسياً وثقافياً.
في فترة ما بعد الاستعمار ومع نشوء الأزمات التي أصابت المجتمعات الغربية الرأسمالية، والتي كانت الحربان "العالميّتان" تعبيراً عن تلك الأزمات، تغيّرت تسمية بلدان العالم الثالث، حينما قسمته إلى دوائر أو أقسام أُطلق عليها الغرب المتقدّم صناعياً نفسه تسميات قياساً إلى موقعه وحاجاته هو بالذات: البلدان المتخلّفة، والبلدان السائرة في طريق النموّ، والبلدان النامية، تبعاً للحراك الاجتماعي/ السياسي/ الاقتصادي لكلّ بلد منها.
غير أن تلك التسميات ما لبثت أن تضعضعت بسبب خروج البلدان غير المنخرطة في عداد بلدان المجموعة الصناعية، ولا في نهجها الاقتصادي/ السياسي، وبخاصة بعد انفراط عقد منظومة البلدان السوفياتية، عن خط المسار التقدّمي العام، الذي رسمه الغرب الصناعي لها، فوُلِدَت تسميات جديدة سعت إلى التعبير عن وضع اقتصادي جديد نشأ في عدد من البلدان غير الغربية المعهودة والتقليدية، اختطّت لنفسها نهجاً اقتصادياً/ سياسياً مختلفاً.
ثمة تسمية أخرى غامضة أُطلِقت في العقد الأخير وهي البلدان "الصاعدة"! من تلك البلدان الصاعدة: الصين، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا، ماليزيا..إلخ. فاقتصاديات هذه البلدان التي كانت في ما مضى مصنَّفة بلداناً متخلِّفة، جعلتها اليوم، وفي عصر العولمة، بلداناً اقتصادية متقدمة بل عملاقة.
عبارة "البلدان الصاعدة" لا تستخدَم في الخطاب الإعلامي فحسب، بل في الخطابين الاقتصاي والسياسي أيضاً. ولا بدّ من ملاحظة أن أحد المعاني التي تستبطنها هذه التسمية، يعبّر عن خشية البلدان الغربية على نفسها من المنافسة التي تتهدّد مواقعها الاقتصادية المتقدّمة في العالم. وقد حدث ذلك في ما مضى في أواخر القرن التاسع عشر، حينما خشيت بريطانيا العظمى على مكانتها الأولى في العالم، من قوة ألمانيا الاقتصادية الصاعدة (راجع كتاب إدوين وليامسEdwin Willims ، وهو بعنوان: "صُنِع في ألمانيا"Made in Germany ، الطبعة الأولى 1896)، وعقدت معها اتفاقية تفاهم (1904) وكانت الحرب العالمية الأولى، بين بريطانيا وألمانيا على اقتسام السوق العالمية لتصريف المنتجات الصناعية، تعبيراً عن تلك الخشية. لكلّ زمن بلدانه الصاعدة.
في الستينيّات كانت اليابان الدولة الصاعدة التي شكّلت "بعبعاً" اقتصادياً للولايات المتّحدة. في السبعينيّات، بدأت بعض الدول الآسيوية "تصعد" وتُخيف بصعودها دائرة الدول الرأسمالية الغربية الأولى، التي أطلقت عليها تسمية "تنانين آسيا"، وهي: كوريا الجنوبية، تايوان، هونغ كونغ، سنغافورة. وترافق انخراطها في الاقتصاد العالمي مع أزمة تحوّل اقتصادي عالمي عاشته في السبعينيّات مجموعة دول "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" التي كانت تضمّ 34 بلداً تنسب لنفسها ميزة مشتركة هي أنها دول تتمتّع بأنظمة حكم ديمقراطية. وتعكس التسمية التي أطلقتها مجموعة الدول هذه على البلدان الآسيوية الصاعدة آنذاك، وهي "النمور"، الطابع العدواني الشرس الذي أسبغته عليها، والذي يعكس الخشية والخوف منها.
هل أعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع