حكاياتٌ تتعدّد باختلافِ
روّاتِها
السّبت, 17 سبتمبر 2011
ماري قصيفي
«هلابيل»
(الدار العربيّة للعلوم - منشورات الاختلاف 2010). هي الرواية الثالثة للجزائريّ
سمير قسيمي، بعد «يوم رائع للموت» و»تصريح بضياع» أتت في موعدها لتؤكّد أنّ تجربة
هذا الروائيّ الشابّ تفرض نفسها لغة ومضمونًا، وبات من طبيعة الأمور أن يُعطى
مشروعه الأدبيّ حقّه بعدما أثبت تميّزه بخطوات سريعة وثابتة. ولنا عودة إلى تبيّن
ذلك من خلال روايته الرابعة «في عشق امرأة عاقر» الصادرة حديثًا. لا أخفي أنّ
«هلابيل» تحتاج من قارئها معرفةً كافية بتاريخ الجزائر وجغرافيّتها و إطلاعا
وافيًا على الحياة الدينيّة فيها، خصوصًا في البعد الروحيّ والتأثير الصوفيّ،
فضلاً عن الأساطير والحكايات الشعبيّة. ولكن هل يعني ذلك أنّ غير الخبير بكلّ ذلك
لن يستمتع بقراءة الرواية وملاحقة شخوصها المهمّشين؟ قطعًا لا، بل ربّما العكس هو
الصحيح، لأنّ القارئ الغريب عن هذا المجتمع، ولو كان عربيًّا (أعني بذلك القارئ)، سيجد نفسه في
أجواء مثيرة وشيّقة تجذبه بما فيها من شعر وتاريخ وأديان واستعمار وجرائم
وتحقيقات، وبأبطالها المختارين بعناية، وبأساليبها المتنوّعة وصياغتها اللغويّة
الغنيّة وإن شابتها مجموعة أخطاء نحويّة سقطت سهوًا ونتمنّى تصحيحها في الطبعة
الثانية: سمعت نحيبًا وأصوات مبحوحة (في الصفحة الأولى)، بعينين اغرورقا دمعًا
(ص16)، حاولت أن أمحها (ص35)، فائدة تُرجا، ولم تكن عيناه تجهر بشيء (ص41)، بعد أن
ينزعون منها المرحاض (ص43)، هامش ثاني
(ص58)...وكثير غيرها.
«هلابيل» (وهو عنوان ٌغامض قد
لا يجذب القرّاء) هو الابن الذي أنجبه الرجل الأول والمرأة الأولى قبل أن يزوّجهما
خالقهما، ومن نسله كان الملعونون والمهمّشون والتائهون لأنّ أبويه تنكّرا له، ثمّ
صار له أتباع ومريدون يعتبرونه بمثابة الأب الأول لكونه سابقاً لقابيل وهابيل. ونسمعهم
في الرواية ينشدون له في حلقات ذِكر خاصّة بهم: هلابيل...هلابيل/ أبونا أنت من
قبلُ/ فلا قابيل أو هابيل/ أُعطيَ قبلك العقلُ (ص67). ولجماعة هلابيل مخطوطات
تتناقلها الأجيال سرًّا، لأنّ فيها الحقيقة التي يرفضها الآخرون الذين هم أولاد
قابيل وهابيل، ويسأل أحد رواة القصّة: «ما الغاية من كلّ هذا التستّر؟ أكان يضرّنا
أن نعلم ونستمرّ كيفما شاء، أم أنّ خوفنا من خوفنا ما يجعلنا نستمرّ...إن كان ثمّة
من خطأ فليس لنا، فعلام إذا ًنخشى حقيقتنا التي بدأت بكذبة واستمرّت كالخميرة
تكبر، حتّى انتهت إلينا عالمـًا قبيحًا أوّله الزيف وآخره الخوف من حقيقتنا، تلك
التي ما كان آها أن تختفي لو أنّه...أأقولها وأفضحه، هذا المنزّه من كلّ ذنب أو خطيئة،
إلّا خطيئة المعرفة» (ص 122).
ومع ذلك فليس سهلاً أن تُكتب البداية.
«ولكن من بدأ هذه القصّة»، يسأل الراوي (ص 128)، «فكما قلت لم يكن ما سبق بداية
بقدر ما كان نهاية لقصّة بدأت قبل الأين والمتى، حين لم يكن للإثم اسم، ولم تكن
الخطيئة قد دوّنت في قاموس الحياة». تختصر هذه الكلمات أمرين جوهريّين يشكّلان
بنية الرواية ومضمونها: فمن حيث البناء نجد أنّ ما ورد في هذه الصفحة (128) يتلاءم
مع عنوان القسم الأوّل الذي أعطي تسمية لافتة: «ما بعد الرواية». كأنّ الرواية،
وربّما أيّ رواية، تبدأ على الورق من حيث انتهت في الواقع، أكان ذلك واقعًا معيشًا
أو متخيّلًا. لذلك، نجد سؤال الراوي «من أين أبدأ القصّة؟»، والمطروح إلى حدّ ما
في منتصف الكتاب (207 صفحات)، دليلاً على أنّ للرواية بدايات تختلف باختلاف
رواتها، وعددهم هنا ستة. أمّا من حيث المضمون، فتختصر الفقرة المشار إليها نظرة
الكاتب إلى مسألة الخطيئة. ويصبّ اختيارُه شخوصَه المحكومين بنظرة المجتمع إليهم
في مصلحة ذلك: السجين، العاهرة، زير النساء المصاب بالسيدا، الشاذ جنسيًّا، الشرطي
الفاسد، المستعمِر الفرنسيّ المسيحيّ. ومع ذلك فهؤلاء هم الباحثون عن الحقيقة والمؤتمنون
على أسرار روحيّة لا تُعطى بحسب المتعارف عليه إلّا للمختارين بناء على مواصفات
معيّنة.
لا يتوقّف تحدّي الكاتب عند هذا
الحدّ، ففضلًا عن تسليمه إرث الفكر البشريّ إلى مجموعة مضطهدين، نجده يمعن في
التطرّق إلى موضوعات تستفزّ المسلّمات الاجتماعيّة والدينيّة، خصوصًا في بيئة
كالبيئة الجزائريّة المغاربيّة.
تستحقّ الرواية معالجة نقديّة تضيق
بها هذه المقالة، ولكن يمكن التنويه بأنواع كتابيّة متعدّدة تمّ التنقّل بينها في انسياب
وبراعة كالوصف والرسالة والتأريخ والفانتازيا مع ما تفرضه من مفردات وتعابير تلائم
مقتضى الحال، ما جعل اللغة تقريريّة جافّة في آخر فصول الرواية حيث المعلومات التاريخيّة
والتحقيقات البوليسيّة، وشعريّة وجدانيّة في الفصول الأولى: «أهو الشوق أم الاضطرار ما أعادني إلى
أرض نفيتها من قلبي بغضًا وكرهًا وازدراء، حتمًا هو الاضطرار، فلا شوق يحمل إلى
حيث لا ينبت الحلم وتزهر الآمال» (ص45)، «تعثّرت الحضارة عند عتبتها (البلدة) ولم
تلحّ في الدخول» (ص74)، «ليس
أخطر من الأحلام في وطن يرغب عنها» (ص103)، «ثمّ خاط الصمت فمه لينتهي (في وصف
الموت)» (ص 106). لكن لا شيء يمنع ورود تشبيه يفاجئ يجعل القارئ يتساءل إن كان
الكاتب أسقط سهوًا مشبّهًا بهما غريبين عن بعضهما أم هي عبثيّة الكاتب الساخر
تزاوج بين عالمين بعيدين من حيث المناخ الخياليّ: «وجهه أحمر كحبّة رمّان أو كوجه
موسكوفيّ تجرّع قارورتي فودكا» (ص76)، وزاوج أيضاً بين أكثر من أسلوب ومزاج وزمن
روائيّ.
منقول للفائدة عن موقع الحياة
اللندنية. لقراءة المقال من مصدره اضغط هنا
تعليقات
إرسال تعليق