قصة قصيدة
الحلقة الحادية عشرة
في عام 1981م انعقد مؤتمر اتحاد الكتاب الجزائريين بقاعة المؤتمرات بقصر الصنوبر تحت إشراف الأمانة الدائمة للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني الذي كان الحزب الوحيد في الساحة السياسية الجزائرية في ذلك الوقت.
- سارت أشغال المؤتمر على شاكلة مؤتمرات الاتحادات المهنية والثقافية والفنية، والمنظمات الجماهيرية من حيث الهيكلة، وتوزيع المهام، واللجان التي أسندت إليها مهمة إعداد أدبيات الاتحاد. كان حضور عدد من أعضاء اللجنة المركزية، والأمانة الدائمة لحزب جبهة التحرير الوطني ملحوظا بشكل لافت للنظر. أذكر أن وفود الكتاب التي جاءت من شرق الجزائر، ومن غربها وجنوبها ووسطها قد روعي في تشكيلها التمثيل الجهوي للكتاب، وليس التمثيل الفكري والأدبي. فضلا عن ذلك فإن الأدباء الشعبيين الناطقين بالعربية الدارجة لم يكن لهم موقع في ذلك المؤتمر، أمّا الكتاب والشعراء باللغة الأمازيغية فلم يدعوا نهائيا إلى المؤتمر وكأنهم ينتمون إلى قارة أستراليا، أو إلى جزيرة الواق الواق. ومن الملاحظ أيضا أن الكٌتابَ الجزائريين المقيمين في المهاجر الغربية، أو في الدول العربية لم يدعوا، وهم بذلك أبعدوا لأسباب لا يعلمها إلا الله واللجنة التحضيرية للمؤتمر. أما حضور الكتاب الناطقين باللغة الفرنسية كان قليلا جدا وقريبا من العدم، علما أن كاتب ياسين كان موجودا بالجزائر. فلا آسيا جبار ولا محمد ديب، وغيرهما كثير من الكتاب الذين يكتبون بلغة فولتير وشارل بودلير كانوا معنا في القاعة بقصر الصنوبر. إلى جانب ذلك فإن اللجنة التحضيرية لذلك المؤتمر لم تكن واضحة بخصوص مفهوم الكاتب. إن صفة الكاتب لا تنطبق فقط على الشعراء، والقصاصين، والروائيين، والمؤلفين المسرحيين، ودارسي ونقاد الأدب، وإنما أيضا تشمل الكتاب في حقول الفلسفة، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والمثقفين في تاريخ الأفكار وهلم جرّا. من المعلوم أن بعض الموجودين كأعضاء في الاتحاد لم يكونوا أدباء وإنما كانوا ينتسبون من حيث جنس الإنتاج إلى التاريخ، ولا يعني ذلك أنهم ليست لهم أهلية تذوق الجماليات الأدبية. وهنا ينبغي القول إن الأغلبية الساحقة من الذين شاركوا في ذلك المؤتمر هم وهن من المعربين والمعربات.
- وقد كانت تلك الصيغة تمثيلا جهويا، كما كان يسمى في ذلك الوقت، للكتاب المعربين، وكانت بالتالي بعيدة كل البعد عن إعطاء المكانة اللائقة للأديبات سواء في أشغال المؤتمر أو في اللجنة المديرة، والأمانة التنفيذية اللتين تمخضتا فيما بعد عنه. وفي الواقع فإن ذلك المؤتمر قد انعكست عليه توجهات حزب جبهة التحرير الوطني الذي لم يكن يعترف إذ ذاك باللغة الأمازيغية كلغة وطنية وبآدابها، فضلا عن تحفظه التقليدي من الاتجاه الفرانكفوني والأدباء المنتجين باللغة الفرنسية. ونظرا لما تقدم فإن ذلك المؤتمر لم يكن وطنيا أو ديمقراطيا لأن صفة "الوطنية" تفترض بالضرورة وبالقوة وبالفعل كما يقول الفلاسفة إشراك الأدباء الجزائريين بغض النظر عن اللغة والجنس، والانتماء السياسي والعقائدي، وكما أن صفة "الديمقراطية" تعني عدم إقصاء أي كان من الكتاب والمبدعين والمفكرين، والمتفلسفين على حد سواء بغض النظر عن ألوانهم الأيديولوجية، والمذهبية. قد برز أثناء الجلسات والمناقشات في قاعة المؤتمر مشكل سياسي، وتمثل في العضوية في حزب جبهة التحرير الوطني. كان موقف المسؤولين القياديين في الحزب والذين كانوا يتابعون كل صغيرة وكبيرة بداخل قاعة المؤتمرات وهو فرض شرط الانتساب إن الحزب الأوحد أولا على ما كان يسمى بقيادة الاتحاد التي ستنتخب لتسير شؤون الاتحاد، ولكن أغلبية الكتاب رفضوا ذلك الشرط لأن تطبيقه بتلك الصورة يعني الفشل في فرز القيادة جراء عدم انخراط معظم المشاركين في المؤتمر في صفوف حزب جبهة التحرير. وهنا اقترح كل من محمد شريف مساعدية، ومولود قاسم، وبشير خلدون ومحمد جغابة وكلهم كانوا أعضاء في الأمانة الدائمة وفي اللجنة المركزية للحزب أن يؤجل ويعلق موضوع الانتساب الحزبي شريطة أن يودع كل من يقع الاختيار في اللجنة المديرة أو الأمانة التنفيذية ملف الانتساب في القسمات الحزبية. هكذا انطفأ التوتر في القاعة وبدأت عمليات "الكولسة" التي هي عادة الحزبيين في العالم الثالث بأسره. نظر الشاعر الراحل محمد الأخضر السائحي إلى أحد الشعراء وقال له: "الحمد لله أنهم لم يفرضوا علينا شهادة الدكتوراه إلى جانب العضوية في الحزب". سأل ذلك الشاعر السائحي الكبير، كما كنا ندعوه تمييزا له عن الشاعر السائحي الصغير هذا السؤال: "ماذا لو فعلوا؟".
- ضحك السائحي الكبير المعروف بخفة ظله وقدرته العجيبة على تفجير النكتة وارتجالها بعفوية ثم قال له وبعضنا يصغي إليه بفرح: "مرة دعيت إلى لقاء تلفزيوني وكان الصحفي الذي حاورني معروفا بشغبه واستفزازه فوجه إليّ سؤالا فرعه إلى أسئلة تلد أخرى. قال لي: "هل أنت حاصل على الشهادة الابتدائية فأجبته بلا، ثم سألني عن شهادة الأهلية فقلت له لم أرها أبدا، وعن شهادة البكالوريا فاستفسرت منه إذا كان يقصد شهادة أكل "الباكور" فقال لي لا. فأنا أقصد "شهادة البكالوريا". أوضحت له بأني لا أملكها. بعد حين واصل الصحفي استفزازي وسألني عن "شهادة الليسانس" فأجبته بأنني قد حصلت من وزير على بطاقات ليسانس وبها عبأت البنزين لسيارتي لعدة شهور. ثم سألني: ماذا عن شهادة الدكتوراه؟ فحركت رأسي في إشارة تعني لا. حدق الصحفي التلفزيوني في عيني طويلا ثم أطلق استفزازه الأخير عليّ قائلا "هذا يعني أنك شاعر بلا شهادات فقلت له: أنا لست كذلك أيها النحرير. احتار من أمري كثيرا وداعبني بقوله: أعرف الآن أنك حاصل على "الغريغاسيون (التبريز) ونفيت بدوري مزاعمه فورا ثم هدر كالسيل مخاطبا إياي بشيء من السخرية قائلا: ما هي شهادتك يا صاحبي؟ توقف السائحي الكبير هنيهة ثم فاجأه هكذا: "يا ابني إن شهادتي العليا هي "لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله". انفجرنا بالضحك ثم سأله ذلك الشاعر: "هل ستدخل إلى صفوف حزب جبهة التحرير الوطني بعد انتهاء مؤتمر الكتاب، فأجابه السائحي بأنه غير ممكن لأنه عضو قديم وكامل العضوية في حزب الله تعالى، ولا يمكن الخروج منه للانخراط في حزب البشر.
تعليقات
إرسال تعليق