/ عمر أزراج: قصّة قصيدة 16

القائمة الرئيسية

الصفحات

عمر أزراج: قصّة قصيدة 16


ما أوسع ساحة الشهداء وما أضيق زنقة الاستقلال

image
بعد اشتداد وتيرة اللغط والهرج في القاعة تساءلت في نفسي: "هل كتب على جبين الشاعر العربي أن يكتب قصيدتين اثنتين في حياته فقط: واحدة في مدح الملك وأخرى في طلب عفوه؟" كما سخر يوما صديق جزائري قد سجن هو أيضا بتهمة المطالبة بحق اللغة الأمازيغية في الحياة الدنيا على الأقل.
  •  قد وردت هذه السخرية المرة في الرسالة التي كتبها هذا الصديق لترسل إليّ وسرّبها أخوه وبعث بها إلى عنواني بمجلة الدستور بلندن كما أوصاه أن يفعل.
  • أتذكر الآن، كما يتذكر الظمآن في الصحراء القاحلة ثدي أمه الناشف مثل قربة عتيقة عندما كان رضيعا، أن ذلك القاضي الليبي قد أشهر صوته الفولاذي وأعلن عن انتهاء تلك الجلسة التنكرية التي ضاع فيها حق الكتاب الليبيين المسجونين. ثم أعادونا جميعا بواسطة الحافلات إلى فندق الشاطئ. بسرعة مفاجئة طلب منّا المسؤولون الليبيون أن نخرج أغراضنا من غرفنا بالفندق فورا وفعلنا ما أرادوه منا.
  • تجمعنا في بهو فندق الشاطئ وعندئذ تلقينا الأمر بالدخول على جناح السرعة إلى الحافلة من جديد. بعد دقائق من انطلاق الحافلة انتبهنا إلى أنفسنا وأدركنا بأننا كنا نساق إلى المطار. أدخلنا إلى الطائرة بسرعة في جو مشحون بالتوتر، وبالغضب الذي كان يغلي في عيون من كانوا بصدد ترحيلنا. قد كانت الطائرة التي وجهنا إليها تابعة للخطوط الجوية السعودية، كما كانت تدل على ذلك الكتابة عليها. ولم يكن أحد فيها سوانا. طارت تلك الطائرة في الجو وظننا بأنها كانت متجهة إلى الجزائر. فجأة حطت بنا بمطار قرطاج التونسي الدولي وقال لنا أحد المضيفين فيها وقبل مغادرتنا لجوفها بأن ثمة طائرة أخرى متجهة إلى الجزائر تنتظرنا بعد ساعة ومن ثم أغلق الباب دوننا بعد تخلصه منا. في مطار قرطاج قيل لنا، في قسم الاستعلامات، بأنه لا توجد أية رحلة إلى الجزائر إلا بعد يومين. وهكذا اكتشفنا الخدعة والمكيدة، ثم توجهنا مباشرة إلى وسط العاصمة التونسية واتصلنا برئيس اتحاد الكتاب التونسيين محمد العروسي المطوي الذي غادر "مهرجان الشعر المقاتل" وعاد إلى بلاده لأنه توقع النتيجة بحدسه ومعرفته بطبيعة وطبع بالنظام الليبي. أخبرناه بما حدث لنا ثم سلم لنا مبلغا من المال لدفع ثمن الفندق  وقبل أن يتركنا قال لي: "قد نجوتم فعلا. لماذا لم تتجهوا فورا إلى سفارة بلادكم في طرابلس؟ ألم تفكروا في إمكانية تفجير  الطائرة في السماء وأنتم فيها؟".
  • وهنا قلت له مازحا: "لو حصل ذلك لكتب الشعراء العرب مراثيهم وبكائياتهم على الشعراء المقتولين بدلا من كتابة الشعر المقاتل".
  •  بعد عودتنا بيومين إلى الجزائر وصلني الخبر بأن العقيد معمر القذافي قد أمر بإلغاء "مهرجان الشعر المقاتل" قبل افتتاحه الرسمي وبعد دقائق فقط من ترحيلنا على متن الطائرة السعودية التي استأجروها خصيصا لنا.
  •  منذ ذلك الحدث اتّسمت العلاقات بين اتحاد كتابنا وبين رابطة الكتاب والفنانين الليبيين بالجمود والبرود. ولكن بعد سنة تقريبا تلقينا دعوة من الرابطة نفسها للمشاركة في ندوة دولية حول "الكتاب الأخضر" بعاصمة فنزويلا "كاراكاس" وطلب منا إنجاز عدد من الدراسات وإرسالهاقبل انعقادها إلى اللجنة الليبية - الدولية.
  •  بعد أسبوع فقط من وصول الدعوة فاتحت الأخ عبد الحميد مهري في مكتبه بخصوص الدعوة وقال لي بأدب وكياسة، بأن المشاركة في تلك الندوة أمر غير ضروري، وفهمت منه الموقف المقصود تماما وهو عدم التورّط السياسي والأيديولوجي وإعطاء شرعية جزائرية للكتاب الأخضر. خلال تلك الفترة، بحثت عن نسخة من الكتاب الأخضر ورحت أطالعه من محيطه إلى خلجانه فوجدته يرسم عالما طوباويا، كما توقفت مليّا عند العبارات الكثيرة التي تمجّد الحريات، في الوقت الذي كان فيه مئات الأبرياء من المواطنين والمواطنات الليبيين والليبيات يقبعون في السجون المظلمة بما في ذلك الأدباء الذين ذكرتهم سابقا، فضلا عن عدد منهم تعرّضوا للقتل في السجن مثل الشاعر عمر النامي والشاعر جبريل الدينالي الذي اغتيل في ظروف غامضة في عاصمة ألمانيا "بون". على آية حال، فإن الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب، الذي كان مقره في سوريا برئاسة الدكتور علي عقلة عرسان، والذي كان يمثل، على الورق، القيادة العليا لجميع اتحادات الكتاب والأدباء العرب، لم يطلب منّا رسميا أو حتى عفويا، في الجزائر، أي استفسار بشأن ما حدث لنا في ليبيا وعن وضع الكتاب والإعلاميين الليبيين المودعين في السجن أو عن أولئك الذين تعرضوا للقتل.
  • وفي الواقع، فإن هذا الاتحاد العام لم يكن مختلفا عن ما يسمّى بالجامعة العربية التي هي مجرد واجهة مقنعة للأنظمة العربية الديكتاتورية.
  •  لا شك بأن الوفود العربية التي جاءت إلى ليبيا في عام 1981 للمشاركة في "مهرجان الشعر المقاتل" قد علمت بالقضية ولكن الأدباء والإعلاميين الليبيين المسجونين ظلوا في السجن لسنوات كثيرة أخرى.
  •  بعد مغادرتي الجزائر في عام 1986إلى بريطانيا هروبا من الملاحقات الأمنية المسلطة ضدي، قررت أن أفعل شيئا لعلّه يساهم في إطلاق سراح زملائي الأدباء والإعلاميين الليبيين. وحينما التحقت بـ"مجلة الدستور"، الصادرة من لندن، إذّاك، لأعمل فيها ككاتب وكصحافي اغتنمت الفرصة وكتبت مقالا مطولا موثقا نشرته على صفحاتها في حلقتين متتاليتين بتاريخ 2 / 1 / 1987و23 / 2 / 1987، ومن ثم اتصل بي المعارض واللاجئ السياسي الليبي محمد مخلوف وزودني بمعلومات إضافية حول السجون في ليبيا وألحقتها بالملف. بعد مدة قصيرة زارني في مكتبي بالدستور الكاتب الليبي واللاجئ السياسي أيضا محمود الناكوع وتحدثنا طويلا في الموضوع وحول قضايا أخرى ذات الصلة بالواقع الليبي. وهو الآن يشغل منصب سفير بلاده ببريطانيا بعد الإطاحة بنظام القذافي. لقد كان الحظ إلى جانبي، حيث كان يعمل معنا في مجلة الدستور صحافي تونسي وهو الصديق كمال السماري الذي تم اختياره فيما بعد من طرف منظمة العفو الدولية "الأمنيستي إنترناشيونال" ليكون ناطقها الرسمي. تبنى السيد السماري القضية وأصبحت مطروحة على النطاق الدولي.
  • وبعد مدة سمعنا بخروج تلك الكوكبة من السجن وعيّن بعضهم في السفارات الليبية كملحقين ثقافيين وأدمج بعضهم الآخر في الوظائف، كما أنشئت لهم مجلة أسبوعية وعوّضوا أيضا بسكنات وسيارات وقد قبلوا بكل ذلك وكفّوا عن المعارضة التي اتهموا بها في ذلك الزمان. وحتى الشاعر فرج العربي الذي سلم لي قائمتهم في ذلك الفجر البعيد الآن، أي عندما كانوا في غياهب السجن، قد عيًن دبلوماسيا ثقافيا في إيطاليا، بلاد موسيليني، التي شنقت شيخ شهداء ليبيا عمر المختار.
هل أعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع