"الشتيمة" التي أوحت القصيدة
في فترة الثمانينات من القرن الماضي التي سلط الضوء عليها كنت ألاحظ بعض الظواهر التي كانت تمهد للصراع على السلطة دمويا. من بين هذه المظاهر الانسحاب النفسي للمواطنين والمواطنات الجزائريات والجزائريين وبروز الانفصال بين هؤلاء وبين السلطة الحاكمة. لقد لمست ذلك في مجال التعبير الشعبي اليومي. وهنا ظهرت لغة جديدة تؤكد ذلك. فالجزائريون كانوا يقولون: "إنهم يجتمعون، وأنهم يخطبون، وأنهم يطيحون ببعضهم البعض". إن التمعن في هذه اللهجة يدرك أن الجزائريين البسطاء غير راضين عن حكامهم وأنهم لا يشاركونهم في أي شيء.
- إنّه عندما يحدث هذا الانفصال بين القاعدة الشعبية فإن ذلك يعني مثلما قال فرانز فانون إن ثمة "مسافة وفرقا في السرعة بين أجهزة الحزب الوطني والجماهير". في أحد الأيام خرجت من اتحاد الكتاب بشارع ديدوش مراد متجها إلى بناية الحزب، حيث توجد لجنة الثقافة والإعلام والتربية لحضور اجتماع بخصوص ملف السياسة الثقافية. حاولت جاهدا أن أجد سيارة أجرة وعندما أفلحت في ذلك أحسست شيئا من الراحة وأنا بداخل السيارة قلت للسائق من فضلك أسرع قليلا فأنا قد تأخرت عن الاجتماع. نظر إلي وسألني "أي اجتماع تقصد؟" شرحت له بأنني متجه إلى مقر الحزب. لم يتمالك الرجل عقلـه ورأيت في عينيه الغضب واليأس الممزوج بالامتعاض.
وهنا رأيته يوقف سيارته في منتصف طريقنا وطلب مني أن أنزل وأترك سيارته وقال لي حرفيا: "إنه خير لك أن تعود إلى دارك لأن هذه الاجتماعات مضيعة للوقت ومن ثمة قال لي: "حتى أنت معهم؟". و بالفعل فقد وجدت نفسي أجوب الشارع وأفكر مليا فيما قاله لي هذا السائق الذي عبر عن قنوطه من اجتماعات الحزب التي كانت تدور مثل الطاحونة بدون طحين، لقد قضيت الأسبوع كله أفكر في هذه الواقعة المؤلمة وبدأت أفهم أن شرخا عميقا يفصل يبن أجهزة الحكم وبين الشعب. في هذا المناخ كنت أسمع تعليقات كثيرة من طرف المواطنين بخصوص السيارات السوداء اللامعة والمكلفة التي كانت تخصص للوزراء وأعضاء اللجنة المركزية في حزب جبهة التحرير الوطني لتميزهم طبقيا عن الناس البسطاء.
إن من يراجع بعض قصائد الشعراء إذ ذاك يجد أيضا تصويرا كاريكاتوريا لهذه السيارات التي تتبختر في الشوارع وتعلن عن قوة أصحابها ونفوذهم الطاغي بلا حدود. من الحكايات التي كانت تدور بين المواطنين أن الوزير عبد الحق برارحي قد قام بانقلاب أبيض ضد جاره. أما الحكاية فهي كما يلي: كان هذا الوزير يسكن في حي العناصر بالعمارات الجديدة وكان ثمة جار يقابل منزله منزل برارحي في الطابق الواحد المشترك. في إحدى الأيام غاب ذلك الجار لمدة وعندما عاد لم يجد أثرا لبابه الخارجي وقيل له بأنه قد انتزع وبني الفراغ الذي كان يشغله ذلك الباب وألحق منزله بمنزل برارحي بعد أن فتح هذا الأخير من الداخل بابا توصل البيتين ليصبحا منزلا واسعا يتبختر فيه معالي الوزير وأفراد عائلته. عندما سأل المواطن المغبون عما حدث قيل له بأن أثاثه قد نقل إلى منزل آخر في مكان آخر وقدم له العنوان ومعه المفاتيح. لم يستطع هذا المواطن أن يفعل أي شيء بل فإنه استسلم إلى الأمر وغادر المكان متجها إلى مثواه الجديد. إن مثل هذا السلوك كان يتكرر هنا وهناك ولم يكن ثمة رادع يردع أصحاب النفوذ من أهل السلطة والحكم في بلادنا.
في هذه المرحلة بالذات بدأت عملية تصفية الأملاك العامة عبر طول وعرض البلاد ودعمت تلك العملية بالقانون. ظاهريا كان يبدو أن النظام أراد أن يُملّك الناس العقارات والأراضي أما في العمق فالأمر لم يكن كذلك. إنه بسبب تطبيق هذه العملية في الميدان تمكن المسؤولون في الميدان من شراء الفيلات الفخمة، والأراضي الإستراتيجية، والمحلات التجارية ذات الأهمية الاقتصادية، وذلك بأثمان رخيصة جدا.
كما تم الشروع في تفكيك القطاع الاشتراكي وإعادة الأراضي المؤممة التي كانت بحوزة الفلاحين إلى أصحابها الذين أممت منهم في عهد الرئيس هواري بومدين. إنه بهذه الإجراءات بدأ النظام السياسي في خلق النخبة الغنية مثلما شرع في تحطيم الشريحة الوسطى وشريحة الفلاحين، وبهذا الشأن عدت مرة أخرى إلى أفكار فرانز فانون التي توضح العلاقة المبتورة بين المواطن العادي وبين السلطة الحاكمة والآليات التي تستخدمها هذه الأخيرة لتعميق انفرادها بكل شيء، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان السلوك الاستعماري الذي ظن الناس بأنه انتهى ولكن هيهات.
في مثل هذا المناخ الموبوء فإنه من الصعب حقا أن يشعر الفرد بالمواطنة وبالانتماء الحقيقي، وبالعكس فإنه يجد نفسه مغتربا ومغربا. كما أنه لا يمكن الانطلاق في الحوار الوطني الصحي من أجل دراسة ما يسميه الدكتور محمد أركون بالساحات الخمس أو الحقول الخمسة وهي "الساحة الفكرية، الساحة الدينية، الساحة السياسية، الساحة الاقتصادية، الساحة الثقافية".
تعليقات
إرسال تعليق