ديون العالم لن تُسَدّد.. وإلى الأبد
العدد: 108 التاريخ: 26/10/2011
المشكلة الطاغية على العالم منذ العام 2008 هي مشكلات الديون العامة. فمنذ ذلك الوقت، لم تعد المشكلات التي يعاني منها العالم سياسية أو عسكرية في المقام الأول، بل باتت اقتصادية ومالية بخاصة، وبات شعار العالم أجمع: "لا نموّ اقتصادياً في العالم من دون توافق سياسي عالمي" (راجع المقالة التي نشرتها مجلة "آفاق" مترجَمَةً إلى العربية، عن صحيفة "ذا فايننشال تايمز" اللندنية، بعنوان: "هل الاقتصاد العالمي على شفا هاوية؟")؛ وذلك انسجاماً مع طبيعة التنمية الاقتصادية في ظل العولمة ومشكلاتها التي تنعكس على جميع البلدان كما لو أن بلدان العالم بات يحكمها قانون "الأوعية المتصلة" الفيزيائي.
الدين العام هو المجموع المالي الذي تلتزمه الدولة والمؤسسات العامة والهيئات المرتبطة بها (كمؤسسات الضمان الاجتماعي والضمان الصحي وغير ذلك..) والذي تحصل عليه على شكل قروض.
بلغت "ديون العالم"، وهي التسمية التي يُطلقها الإعلام على ديون المؤسسات المالية الكبرى، بما فيها البنوك وحكومات الدول وخزائنها المالية، حدّاً لم يعد يمكن التعبير عنه بأرقام معروفة؛ إذ لم يعتدْ العالمُ التعاملَ بأرقامٍ تحتوي على هذا القدر الكبير من الأصفار، مثل بيليون وتريليون وغير ذلك من الأرقام التي تُشبِه قاطرات رقمية تجرّ عدداً لا ينتهي من الأصفار. فلو أردنا كتابة أربعين ألف مليار، وهو الرقم الذي بلغته تلك الديون كما نشرته مجلة "نوفيل كليه" ( Nouvelles clés أي "المفاتيح الجديدة") في عددها الأخير (راجع مقالة فرنسوا لانغليه François Lenglet "ديون العالم لن يمكن تسديدها مطلقاً وإلى الأبد" Le mur de dette ne sera jamais remboursé في العدد 73 من المجلة المذكورة، أكتوبر/ نوفمبر 2011) لاحتجنا إلى13 صفراً (40000000000000)؛ فكيف يمكن الإحاطة برقم كهذا، لا ذهنياً فحسب، بل بصرياً أيضاً؛ إذ إن تعداد الأصفار وحده يظلّ عرضةً للوقوع في كلّ لحظة في خطأ يمكن أن يستحيل كارثة محققة كما حدث في العام الماضي حين أدّى خطأ من هذا النوع وقع فيه أحد موظفي بنك "سوسييتيه جنرال" إلى تكبيد البنك المذكور خسارة بلغت ستة مليارات يورو، وأدّى بالموظف المذكور إلى السجن.
لن يمكن بعد اليوم سداد الديون العالمية بموجب المنطق الاقتصادي الذي ما زال سائداً والذي يدعو الاقتصاديون إلى إدخال تعديلات جذرية عليه كإعادة النظر في النظام النقدي الدولي، وإعادة النظر في اعتبار الدولار أساساً لتقييم قيمة العملات الوطنية الأخرى، وغير ذلك من التدابير الآخذة في التبلور في الهيئات والمؤسّسات التشريعية والمالية الدولية والعابرة للدول. وكأنما لم يعد للأصفار التي تقع على يمين الأرقام الدالّة على العجز والدَّين العالمي معنى المنزلة التي يفترضها التسلسل الحسابي الرقمي في النظام العشري، بل باتت أصفاراً "على الشمال" ـ كما يُقال بالعامية ـ فمهما بلغت سلسلة الأصفار من الطول تبقى في منزلة الصفر. في فيلم أميركي يعود إلى الثمانينيات، بلغت مليار دولار قيمة إرثٍ آلَ إلى أحد أحفاد ثري كبير فلم يفهم الوريث قيمةَ ما ورث، فسأل مدير البنك: "أعرف جيداً ما هي قيمة مليون دولار، ولكن مليار.. ما قيمته بالضبط؟" فأجابه المدير: "لو افترضنا أن الدولار هو ثانية، فإن المليون يكون 11 يوماً، أما المليار فـ 31 سنة". فإذا قسنا بالمقياس نفسه تكون الديون المتراكمة على المؤسّسات المالية العالمية مليوناً و200 ألف سنة.
يفكّر الاقتصادي بالحلول الممكنة لهذه الكارثة التي تعيشها البشرية اليوم، ويقترح السياسي تدابير وإجراءات تحدّ منها أو تؤجّل وقوعها؛ أما الفيلسوف فعليه أن يذهب إلى جذور المشكلة ليكشف عيوب "التنظيم السياسي والاجتماعي الذي فرضته الليبرالية والثورة الصناعية على الغرب برمته ثم فرضه الغرب على العالم برمته. وعلى الفيلسوف أيضاً أن يقدّم أنموذجاً آخر، لا بل تصوراً آخر للعالم، بعدما منحت "حريةُ المعاصرين" التي جعلت منها الليبرالية أنموذجاً، منحت الفضاء الشخصي الخاص بالفرد قيمة تمثلت في إتاحة القدرة له على أن يحقق أقصى ما يستطيع من مصالحه ومطامحه لكي يبلغ حداً من السعادة يتصوّره كما يشاء. وكانت الدولة مجرد ضامن لشروط هذه السعادة وظروفها؛ فكان الفرد هو السيد، والحرية هي القيمة العليا.
الثورة الصناعية التي زامنت الليبرالية ورافقتها، كانت هي الأخرى لا بأس بها؛ فقد بشّرت بهناء العيش للجميع، بفضل قدرتها على تطويع الطبيعة، وأفضل استخدام لها بالعمل وبالاستهلاك غير المحدود لمنتجاتها.
أين الليبرالية والثورة الصناعية من وعودها اليوم؟ ماذا بقي من الحرية الفردية وهناء العيش؟ البشرية برمتها يئست من نيل السعادة، فهي إما مريضة أو جائعة، والطبيعة تئنّ وتعنّ من الاحترار والتلوّث والاختلال، والمساواة سراب والحرية صدفة فارغة لم يعد في وُسع الناس ممارستها لانعدام أدوات تلك الممارسة وإمكاناتها، تحت وطأة ندرة فرص العمل ومشقّة العثور عليها ، وعدم انتظام الدخل والمورد وانعدام العيش اللائق الكريم...
هذا ما فعلته كورين بيلوشون Pelluchon الباحثة في "المركز الوطني (الفرنسي) للأبحاث العلمية" (CNRS) والتي ترفض أن يتمّ تصويرها على أنها مسؤولية جميع الناس، فبدلاً من أن يُقال بأنها ديون المؤسسات المالية الكبرى يُقال بأنها "ديون العالم" وأن كلّ الناس فقيرهم وغنيهم مسؤولون عن تحمّل أعبائها.. لكن المعترَف به شكلياً واسمياً هو أن الثقل الأكبر من الديون العامة العالمية يقع على عاتق البلدان المتقدّمة، حيث كل مواطن يرزح تحت عبء دين ثقيل ليس بوُسعه أن يفي به وفي هذه الحال ينتقل هذا العبء إلى ذريته من بعده، في حين أن واقع الأمر عملياً أن تلك الديون يُفرَض سدادها على البلدان الفقيرة أو على البلدان المصدرة للنفط.. (راجع مقالة روبير ماغيوري R. Maggiori في صحيفة "ليبراسيون" 13/10/2011).
في المقالة نفسها العائدة لفرانسوا لانجليه في مجلة Nouvelles clés، أن ديون البلدان الصناعية المتقدمة يجب أن تُوَزَّع على مواطني تلك البلدان جميعاً من دون استثناء. وبحسب الدراسات الاقتصادية المنشورة، يجب ـ نظرياً على الأقلّ ـ على كلّ مواطن ياباني أن يتحمّل 85976 دولاراً، وعلى كلّ يوناني أن يدفع 33970 دولاراً، وعلى الفرنسي كما على الأميركي أن يتحمّل 32500دولار، والأسباني 18885، أما الصيني فلا يتحمّل سوى 794 دولاراً بالنظر إلى توزع العبء الكبير المُلقى على عاتق الصين على عددها السكاني الهائل"
من المتوَقَّع بحسب وكالة موديز Moody’s التي ترصد الديون العالمية أن تعلن المكسيك إفلاسها العام والتام سنة 2030والولايات المتحدة سنة 2040 وفرنسا سنة 2044 والصين سنة 2055 واليابان العام وألمانيا سنة 2079.
ويقول المؤرخون الاقتصاديون إن أزمات النظام الرأسمالي المالية الكبرى، منذ نشأته، تتكرر دورياً كلّ 80 عاماً وهي المدة التي تستغرقها حياة جيل كامل من البشر منذ ولادته حتى وفاته. وكأنما الأزمة ما إن يختفي آخر شاهد عيان عليها حتى تبدأ من جديد!! الأزمات الكبرى الثلاث التي شهدتها الرأسمالية العالمية وقعت العام 1865 حتى العام 1895 وقد تسبّبت بها حركة المضاربات على التكنولوجيات الجديدة آنذاك، وبخاصة تكنولوجيا المواصلات، ولاسيما سكك الحديد والقطارات، وعلى العقارات. وكانت بدايتها في أوروبا قبل أن تعمّ العالم الغربي جميعاً بالنظر إلى الترابط المالي والمصرفي بين جميع أجزائه. دامت هذه الأزمة ثلاثين عاماً. أما الأزمة الثانية فقد بدأت العام 1929 ودامت عشر سنوات حتى العام 1939. مهَّد لهذه الأزمة اشتداد المضاربات في البورصة على التكنولوجيا الجديدة (الراديو والسيارات) وعلى العقارات. بدأت هذه الأزمة في الولايات المتحدة التي كانت قد غدت آنذاك قلب الرأسمالية العالمية النابض حين وقع الانهيار الكبير في أكتوبر/ تشرين الأول 1929، ثم ما لبثت أن امتدَّت في أيار/ مايو 1931 إلى عموم أوروبا مع انهيار البنك السويسري "كريديتانستالت" فانخفض التبادل التجاري إلى النصف والإنتاج العالمي إلى الثلث.
الأزمة الثالثة والحالية، وهي الأسوأ في تاريخ الرأسمالية، بدأت العام 2007 مع انهيار قطاع العقارات في الولايات المتحدة في وقت بلغت فيه ديون المصارف والعائلات مستوى غير مسبوق. ثم انتقلت في العام 2010 إلى أوروبا عبْرَ اليونان والبرتغال وإيرلندة.
تواصل الديون العالمية تزايدها في البلدان الغنية: في الولايات المتّحدة بلغ الدين العام (ديون الدولة والمؤسّسات والعائلات) 3أضعاف الناتج المحلّي الأميركي، وفي أوروبا يهدّد تراكم الديون بنية الاتحاد الأوروبي وزوال الاتحاد النقدي والعملة الموحدة في منطقة اليورو، كما يهدّد بشلّ قدرة الحكومات الوطنية على اتخاذ القرارات والمبادرات المستقلّة؛ فقد بلغت ديون فرنسا العامة1646 مليار يورو في الفصل الأول من العام الجاري 2011، وتشكّل كيفية التعامل مع هذه الديون القضية الأساس في البرامج الانتخابية للسياسيين الفرنسيين المرشحين لرئاسة الجمهورية في الدورة المقبلة (2012). أما في اليونان وأسبانيا وإيرلندا والبرتغال فقد دمّرت الديون العامة قدرة الحكومات الوطنية في هذه البلدان تدميراً تاماً وشلّت قرارها المستقل شللاً تاماً. وسواءً تولّت الحكم في هذه البلدان أحزاب يمينية أم يسارية، وسواء شهدت هذه البلدان فترات ازدهار أم انحسار اقتصادي، فإنها ملزمةٌ بسداد ديونها الهائلة على مدى سنوات وسنوات.
خريطة الديون العامة بالنسبة إلى الناتج المحلي في العام 2007
بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي للعام 2011
المصدر: صندوق النقد الدولي
الدول الصغيرة مثل سانت كيتس، ونيفس وبريدس، وغرناطة لم يشملها التصنيفبحسب مجلة "ذا إيكونوميست" تبلغ قيمة الديون العالمية 35 ألف مليار دولار، وترتفع هذه الديون بزيادة 300 ألف دولار في الثانية الواحدة. وقد نشرت المجلة المذكورة، في موقع لها على الإنترنت (L'Expansion.com )، صورة لحركة "ساعة الديون العالمية" التي تجمع ديون العالم أجمع، وهي آخذة في التصاعد. ويتوقّع الاقتصاديون العاملون في صندوق النقد الدولي ـ بحسب مجلة "ذا إيكونوميست" ـ أن يقفزالدين العام للبلدان العشرة الأكثر ثراءً في العالم إلى 114% في العام 2014 بعدما كان78% في العام 2007.
المصدر: كتاب "حقائق العالم" (World Factbook) الصادر سنوياً عن الإدارة الأميركية، والذي تعِدّه وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إي) ويتضمن معلومات مفصلة من وجهة نظر تلك الوكالة عن الشؤون الديمغرافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية لكل بلد في العالم.
تعليقات
إرسال تعليق