90 في المائة من غذاء العرب مستورد والزراعة بين الاستثمار و"الاستعمار"
العدد: 107 التاريخ: 24/10/2011
احتلّت قضية الأمن الغذائي في السنوات الأخيرة قائمة التحدّيات الرئيسية التي تواجه الدول العربية والعمل العربي المشترك، خصوصاً في أعقاب تضخّم كبير شهدته هذه الدول، وضعها على أعتاب تحديات جديدة تتمثّل في الكيفية التي تضمن توفير الغذاء الكافي لنحو 350 مليون عربي.
وبحسب منظمة الأغذية والزراعة "الفاو"، يعني مفهوم الأمن الغذائي ضمان حصول كلّ الأفراد، وفي كلّ الأوقات على كفايتهم من الغذاء، الذي يجمع بين النوعية والسلامة كي يعيشوا حياة موفورة بالصحة. وجاء في "إعلان تونس" في يناير 1996 أن الأمن الغذائي العربي يعني توفير الغذاء بالكمية والنوعية اللازمتين للغذاء والصحة بصورة مستمرة لكلّ أفراد الأمة العربية اعتماداً على الإنتاج المحلي أولاً، على أساس الميزة النسبية لإنتاج السلع الغذائية لكلّ دولة عربية، وإتاحته للمواطنين العرب بأسعار تتناسب مع مداخيلهم وإمكانياتهم المادية، وتوفير أكبر قدر من الغذاء بالاعتماد على الذات.
لكنّ الفجوة الغذائية اتّسعت ووصلت العام الماضي إلى 37 بليون دولار، فيما لم تحقّق الزراعة العربية الزيادة المستهدفة في الإنتاج اللازم لمواجهة الطلب على الأغذية، وارتفعت نسبة الاستيراد إلى 90 في المائة من حاجاتها، على الرغم من توافر الموارد الطبيعية الضخمة التي تملكها هذه الدول، والمتمثّلة في الأرض والمياه والموارد البشرية والقدرات المادية، وذلك بحسب إحصاءات حديثة أجرتها مؤسّسة "إي آر" المنظّمة للملتقى العربي للصناعات الغذائية، وهو الملتقى الذي سيناقش هذه المسألة في دولة الإمارات العربية في اليومين المقبلين برعاية الجامعة العربية ومشاركة 18 وزيراً عربياً و500 ممثّل في المنطقة.
وبحسب تقرير صادر أخيراً عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية التابعة للجامعة العربية، فإن الدول العربية تستورد معظم حاجاتها من الغذاء، وقد زادت كلفة الاستيراد من 15 مليار دولار في العام 2006 إلى 20 مليار في 2007،في ظلّ ازدياد عدد سكان المنطقة بمعدل سنوي يبلغ 2.2 في المائة، في وقت لا تتعدّى فيه الاستثمارات العربية في قطاع الزراعة 30 بليون دولار.
إن اهتمام الدول العربية بتوفير احتياجاتها من الأغذية ازداد في أعقاب الأزمة الغذائية العالمية خلال عامي 2007 و 2008، حيث بلغت الأسعار العالمية للسلع الغذائية ذروتها. وتظهر تقارير المنظمات والجمعيات الأهلية نقصاً حقيقياً في الغذاء وصل إلى حدّ المجاعة في بعض الدول العربية، مروراً بتسجيل مستويات مرتفعة للمواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر.
ارتفع استيراد الدول العربية للأغذية بشكل لافت منذ منتصف سبعينيّات القرن الماضي، ولاسيّما في السنوات الأخيرة، إلى معدلات عالية جداً. وتشير الأرقام إلى أن الفجوة الغذائية العربية ارتفعت قيمتها من 11.8 مليار دولار العام 1990، إلى 23.8مليار العام 2007. ومن المتوقّع أن تزداد قيمة الفجوة من 27 مليار دولار العام 2010، إلى حوالى 44 مليار دولار العام2020.
ووفقاً لـ التقرير الاقتصادي العربي الموحّد الصادر عن صندوق النقد العربي في العام 2009، والذي جعل محوره الأساسي "الأمن الغذائي في الدول العربية"، فإن قيمة الفجوة للسلع الغذائية الرئيسية استمرت في الاتساع على الرغم من تحقيق زيادة في إنتاج الحبوب والمحاصيل الرئيسية، كما استمر العجز في بعض المحاصيل الرئيسية، حيث تستورد الدول العربية أكثر من50% من احتياجاتها من الحبوب، ونحو 63% من الزيوت النباتية،و71% من السكر، وشكّلت هذه السلع نحو 76% من قيمة فجوة السلع الغذائية الرئيسية خلال العام 2007.
وأوضح التقرير أن الفجوة الغذائية للسلع الرئيسية ارتفعت قيمتها في الدول العربية من نحو 13.9 مليار دولار العام 2000 إلى23.8 مليار دولار العام 2007، فيما ارتفعت نسبة إسهام الحبوب في جملة الفجوة الغذائية العربية من 45% العام 2000 إلى50% العام 2007. ويأتي القمح في مقدمة الحبوب المستوردة، حيث يمثل أكثر من 50% من قيمة فجوة الحبوب ونحو 28% من إجمالي قيمة الفجوة الغذائية العربية. يليه الشعير والأرز بحوالى 8.2% و 6.6% من قيمة الفجوة على الترتيب. كما بلغ إسهام السكر والزيوت النباتية بنحو 11% و8% على التوالي، في حين أسهمت المنتجات الحيوانية بنحو 26% من قيمة الفجوة الغذائية. وسجّلت الفواكه والبطاطس نسباً عالية من الاكتفاء الذاتي، بينما حققت الخضروات والأسماك فائضاً تجارياً.
تشير تقديرات منظمة الأغذية والرزاعة "الفاو" إلى ارتفاع متوقّع في الأسعار العالمية للسلع الغذائية خلال العقد القادم وبنسب مختلفة، في ضوء استمرار النموّ السكاني المرتفع وتحسّن الأوضاع المعيشية في دول الكثافة السكانية المرتفعة والتغيرات المناخية وتباطؤ النموّ الاقتصادي العالمي. ومن أجل تقليص تلك الفجوة المتوقّعة، يتطلّب الأمر تحقيق نسب أعلى في معدلات الإنتاج الغذائي لتلبية الطلب المتزايد على الأغذية في المنطقة العربية، إضافة إلى ضرورة التوسع في تنفيذ المشروعات الزراعية.
لقد تراجعت الواردات العربية على حساب نقص الاحتياجات الأساسية للمستهلكين، وهذا ما دعا الدول العربيةإلى اتخاذ العديد من الإجراءات الاستثنائية مثل زيادة مخصّصات الدعم الموجه للسلع الغذائية والعمل على الحدّ من تصدير بعض السلع الغذائية التي تحتاجها السوق المحلية وإلغاء الضرائب على الواردات وزيادة أجور العاملين. فازدادت كمية الواردات العربية وقيمتها من العام 2003 إلى العام 2006 بنسبة 13% في الكمية و37.9% في القيمة، منها حوالى 32.2% واردات حبوب ودقيق..
واردات تفوق الصادرات
دقّ تقرير لـ "معهد الملك عبد الله للبحوث والدراسات الاستشارية" التابع لـ"جامعة الملك سعود" ناقوس الخطر في ما يتعلّق بتنوّع الواردات الغذائية في السعودية، إذ كشف أن 90 % من الغذاء يستورد من 9 دول في مقدّمتها البرازيل التي تُعتبر أكبر مورّد للأغذية في البلاد وبعدها الاتّحاد الأوروبي ثم الهند وأميركا، وهو الأمر الذي يشكّل خطراً استراتيجياً يحتاج، وفق الخبراء، للمعالجة من خلال فتح منافذ جديدة تضمن تلبية الطلب المتزايد في البلاد في ظلّ التزايد السكاني الكبير. وتوقّع التقرير أن يرتفع الطلب على القمح في السعودية في 2015 إلى 3.2 مليون طن بعد أن كان 2.8 طن في العام 2008، في حين سيرتفع الطلب على الأرز من مليون طن في 2008 إلى 1.2 مليون طن، والسكر إلى 782 ألف طن من 526 ألف طن حالياً، والزيوت النباتية من 423 ألف طن إلى 490 ألف طن، بينما توقّع تراجع الطلب على الشعير من 7.1 مليون طن في 2008 إلى 3.7 مليون طن في 2015 في ظل مساعي الدولة لاستخدام الأعلاف المركبة لتقليل الاعتماد على هذه المادة.
أما العراق الذي يخسر ما يعادل 100 ألف دونم سنوياً من الأراضي الصالحة للزراعة، فيستورد أكثر من 80% ممّا يأكله الشعب العراقي، علماً أن كوادره العلمية والفنّية الموجودة في مجال الزراعة والإنتاج الحيواني في كلّ محافظة عراقية تعادل ما هو موجود في دول التعاون الخليجي قاطبة.
الغذاء في ميزان الصفقات
تتّجه الدول العربية الأغنى إلى الاستثمار في الدول الأكثر فقراً لإحداث توازن في ميزانها الغذائي من خلال اتفاقيات تبرمها مع هذه الدول. ووصف البعض هذه الاتفاقيات بـ "الاستعمار الجديد" واعتبرتها منظمة OXFAM الدولية أنها اتفاقيات غير إنسانية، تُكثر من نسبة الجياع في الدول التي وافقت على مثل هذه الاتفاقيات.
لقد حصلت الإمارات العربية المتّحدة على مليون هكتار في باكستان وهي بصدد الحصول على أراضٍ شاسعة في السودان وكازاخستان. كما تسعى الإمارات العربية حالياً إلى استغلال 30 ألف هكتار في السودان وعلى ضفاف النيل لزراعة الذرة والأعلاف الحيوانية، وهي عقدت اتفاقيات عدّة مع الصومال حيث حصلت على مزرعة كبيرة على ضفاف نهر الشبيلي.
قطر من جهتها، استثمرت مساحات كبيرة في كينيا وهي بصدد الحصول على أراضٍ في كلّ من كمبوديا وفيتنام، وهي وقّعت اتفاقية مع كينيا تستغلّ بموجبها 40 ألف هكتار من أخصب الأراضي الزراعية الأفريقية مقابل بناء ميناء لكينيا على المحيط الهندي بكلفة 3 مليارات دولار. أما السعودية فحصلت على مليون وربع هكتار من أندونيسيا، واستثمرت ليبيا ربع مليون هكتار في أوكرانيا ولها مشاريع زراعية كثيرة في أفريقيا منذ ثلاثة عقود. وحصلت كوريا الجنوبية التي لا تتعدّى مساحتها 10000كيلومتر مربع على 700 ألف هكتار من السودان، وهي تحاول الحصول على أراضٍ في أي مكان لتغذية شعبها. أما العراق الذي يملك مساحات زراعية شاسعة ويُعتبر البلد الزراعي الثاني بعد السودان في مجموعة الدول العربية وفيه نهران دائمان كبيران، فقد صُنّف في عداد الدول الفقيرة التي تُعرض أراضيها في أسواق الصفقات لمن يدفع أكثر.
اليابان بدروها تستثمر 100 ألف هكتار في البرازيل، أما الصين التي لديها حوالى 40% من فلاحي العالم وتملك حوالى 9% من الأراضي الزراعية في العالم، فقد وقّعت اتفاقيات مع أكثر من 30 دولة تعتبرها صديقة، ترسل بموجبها الآلات والخبراء للدول التي حصلت على أراضٍ زراعية فيها، حيث تُزرع المواد المطلوبة في الصين.
إن واقع الغذاء العربي هو بالطبع محصّلة وناتج العديد من العوامل وفي مقدّمها تأثير العوامل الجغرافية والتفاوت في الموارد الطبيعية والبيئات الزراعية العربية والتباين في القدرة على إنتاج الغذاء بين دولة وأخرى. لكن الأمن الغذائي المطلق الذي يُقصد به إنتاج الغذاء داخل الدولة الواحدة بما يُعادل أو يفوق الطلب المحلي، هو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تفعيل السياسات الاقتصادية العربية وإيجاد تكتلات اقتصادية زراعية على الصعيد الإقليمي واعتماد برامج وقائية للأمن الغذائي في مواجهة التغيرات المحتملة من جرّاء تحرير التجارة الزراعية. وريثما يتحقق ذلك، يبقى الأمن الغذائي النسبي هو التدبير الغالب.
تعليقات
إرسال تعليق