هجرة الوظائف: ظاهرة تقتضي الحذر...
العدد: 104 التاريخ: 17/10/2011
طالت التغييرات الهائلة التي أحدثتها العولمة الاقتصاديّة الراهنة، من جملة ما طالت، الحراك السكاني العالمي وسوق العمل. حيث برزت ظاهرة جديدة دفع بها التطوّر الهائل في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتيّة، في عصر بات يعرف بـ "اقتصاد المعرفة". وتتحدّد هذه الظاهرة بهجرة الوظائف (والمقصود هجرة الوظائف من الدول الغنيَّة أساساً، إلى الدول الأقل تطوراً)، والتي لا تستدعي هجرة الأشخاص الذين يؤدّون تلك الوظائف.
في كتابه "الاقتصاد العالمي المرحلة التالية" الصادر العام 2005، تناول الاقتصادي الياباني كينشي أوهمي وصف هذه الظاهرة على أنها "القيام بأعمال خارج الحدود"، بمعنى أنه يتمّ إرسال الوظيفة أو العمل إلى خارج البلاد من دون ضرورة أن يغادر القائم بها مكان إقامته في بلده الأصلي. فهذه الظاهرة الجديدة نسبياً تقوم على إيكال الشركات والمؤسّسات المختلفة جزءاً من نشاطها، ولاسيما في مجال الخدمات، إلى منظمات أو أفراد في الدول الأقلّ تطوراً، حيث الأجور أكثر انخفاضاً، وذلك لتخفيض كلفة الإنتاج. وقدّرت مؤسّسة الفكر الاقتصادي لشركة ماكينزي آند كومباني إمكانية بلوغ عدد الوظائف التي ستنتقل إلى خارج البلاد إلى 9 ملايين وظيفة على مدى الأعوام الثلاثين القادمة. فالشركات الكبيرة متعدّدة الجنسيات في دول العالم المتقدّمة، تلجأ إلى توظيف المدراء التنفيذيّين من جميع أنحاء العالم، وليس من بلد معيّن، وإلى توظيف العمالة في أيّ مكان في العالم تراه مناسباً لمصالحها.
وجاء في صحيفة "إيكونوميك تايمز" الهندية في عددها الصادر يوم 27 تموز/يوليو2010 ، نقلاً عن رون روبنز المؤسّس والمحلّل في مؤسّسة إنفيستينغ فور سول في مقاله "هجرة وظائف الخدمات إلى البلدان النامية" المنشور في مجلة الرؤية الاقتصاديّة في الثاني من سبتمبر العام 2010، أن "كبرى شركات التكنولوجيا متعدّدة الجنسيات تقوم بنقل وظائفها إلى جهات أخرى من العالم، بحيث ارتفع حجم التوظيف الخارجي لدى بعضها، مثل (آي بي أم)، و(آكسنتشر)، و(إي دي إس)، خصوصاً بالنسبة إلى الموظفين العاملين في مجال التسليم في المراكز الخارجية كنسبة مئوية من القوى العاملة، من 25 - 30 في المائة في العام 2007، ليصل إلى 35- 40 في المائة في العام 2009". كما "ارتفع متوسط عدد الدول التي تمتلك فيها هذه الشركات مراكز تسليم من 13 دولة في العام2007، إلى 15 دولة العام 2009". وفضلاً عن ذلك، فإن ما نسبته70% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي العالمي يرتبط بالخدمات، مقارنة بنسبة 17% بالتصنيع، وبالتالي فإن الفرصة المتاحة أمام الدول النامية من تعهيد الوظائف الخارجية ستكون ضخمة جداً، بل إنها تتفوق بسهولة على ما يمكن للصناعة أن توفّره لاقتصادات تلك الدول.
وبحسب نبيل علي ونادية حجازي في كتابهما "الفجوة الرقمية"(عالم المعرفة،العدد 318، 2005)، فإن اقتصاد المعرفة أضحى النقيض المتزايد للاقتصاد التقليدي(الصناعي تحديداً) بعد أن أضاف إلى اقتصاد عصر الصناعة قيمة المعلومات والمعرفة بدل قيمتيّ المنفعة والتبادل. فيما إنتاج المعرفة بات يرتكز على السرعة والدينامية والقدرة على تصريف المنتوجات. وبالتالي حلّت عملية "هجرة الوظائف" بحثًا عن العامل، بدلاً من هجرة اليد العاملة أو "هجرة الأدمغة" بحثاً عن فرص العمل في بلدان أخرى. وهذا ما أدّى إلى ما يسمّى "نزيف الأدمغة عن بعد"، حيث يتمّ عبر الإنترنت اجتذاب العاملين من الدول النامية، وهم في أوطانهم، من دون حاجة إلى هجرة، دائمة أو مؤقتة، ومن دون كلفة تأمين إقامتهم أو تقديم الضمانات الاجتماعية والصحّية وضمانات نهاية الخدمة لهم. فتشارك العمالة المحلّية عبر الإنترنت مع فريق العمل الجماعي للشركات الأجنبية مقابل أجر متدنٍ نسبيّاً لا يتناسب مع أجر العاملين من مواطني الدول المتقدّمة.
اختلال التوازن الاجتماعي
أثارت ظاهرة "هجرة الوظائف" الناتجة عن تراجع الأهمية التي كانت موكلة للصناعة في الاقتصاد سابقاً، الكثير من التحفّظات. ففي مقاله "حتمية التصنيع"، يقول داني رودريك أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في هارفارد (العرب القطرية، 30/9/2011) أنه "مع تطوّر الاقتصادات واكتسابها المزيد من الثراء، أصبح التصنيع أقلّ أهمية على نحو لا مفرّ منه، ولكن حين يحدث ذلك بسرعة أكبر من قدرة العمال على اكتساب مهارات متطوّرة، قد يتسبب الأمر في نشوء اختلالٍ خطير في التوازن بين بنية الاقتصاد المنتجة وقوته العاملة، وبوسعنا أن نرى العواقب المترتّبة عن ذلك في مختلف أنحاء العالم، في الأداء الاقتصادي القاصر، واتّساع فجوة التفاوت بين الناس، والسياسات المثيرة للخلاف والشقاق". وبحسب كينشي أوهمي في كتابه السابق ذكره، تمثّل الهند نموذجاً أساسيّاً للكشف عن التباينات الاقتصادية والسياسية في الدولة الواحدة نتيجة تحوّل تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية والخدمات ذات القيمة العالية إلى محرك أساسيّ للنموّ الاقتصادي، ففي مدن مثل بنغالور وحيدر أباد تجد مراكز تجارية كبيرة ومشروعات اقتصادية وتقنيّة متقدّمة ومزدهرة، تقود وظائف الأعمال التي تتمّ في الخارج بهدف تقليص كلفة الإنتاج على حساب الشركات الأميركية والأوروبية. بحيث أصبح بعض أقاليم الهند جزءاً من الشركات العالمية، من دون تدخّل الحكومات إلا لجذب رأس المال واستقبال الشركات التي تقدّم فرص العمل بما يسهم في تقليل الإعانات التي تدفعها الحكومة.
وبحسب داني رودريك أيضاً، فإن هجرة الوظائف على هذا النحو كانت سبباً في حرمان نموّ الإنتاجية في الولايات المتّحدة من 0.3نقطة مئوية في كلّ عام، ومنذ 1990، أي ما يقرب من سدس المكاسب الفعلية خلال هذه الفترة. كما أسهمت الحصة المتزايدة من الوظائف المنخفضة الإنتاجية في ارتفاع مستويات التفاوت وعدم المساواة في المجتمع الأميركي.
ثم تسارع معدل خسارة الوظائف في قطاع الصناعات التحويلية في الولايات المتّحدة بعد العام 2000، بسبب المنافسة العالمية. وفي بريطانيا، حيث كان انحدار الصناعات التحويلية بمثابة هدف سعى المحافظون إلى تحقيقه منذ مارجريت تاتشر إلى تولّي ديفيد كاميرون السلطة، فإن الأرقام أشد ترويعاً، فبين العام 1990 و2005، هبطت حصة القطاع في إجمال العمالة بما يتجاوز سبع نقاط مئوية. وكانت عملية إعادة توزيع العاملين على وظائف خدمية أقل إنتاجية سبباً في تكبيد الاقتصاد البريطاني 0.5 نقطة من نمو ّالإنتاجية سنوياً، أي ربع إجمالي المكاسب الإنتاجية خلال تلك الفترة.
ظاهرة تستدعي الرصد والترقّب
تستدعي ظاهرة "هجرة الوظائف"إذن، تصدّي حكومات الدول النامية بعامة والدول العربيّة بخاصة لما يمكن أن ينعكس سلباً على مجتمعاتها بسبب العولمة الاقتصاديّة وما أفرزته من مظاهر متنوّعة فيها الإيجابي كما السلبي. ومن ذلك مثلاً، استقطاب الدول المتقدّمة المهاجرين العرب من ذوي الكفاءة العالية، وما يمكن أن يؤدّي إليه ذلك من نزيف معرفي واقتصادي حاد داخل دول الجنوب، خصوصاً أن البلدان المتقدّمة لا تزال قادرة على التحكّم بما يخدم مصالحها. وقد تجلّى ذلك مثلاً، بممارستها الهجرة الانتقائية لليد العاملة المهاجرة. فحين أقرّ المفوض الأوروبي المكلف بشؤون الأمن والعدل والحرية جاك بارو في العام 2009اعتماد الاتّحاد الأوروبي قانون "البطاقة الزرقاء" كآلية لمواجهة تدفق المهاجرين، صرّح قائلاً:"نستطيع بمنحنا البطاقة الزرقاء للخبرات الأجنبية العالية الكفاءة، تنظيم إقامة الأجانب من أصحاب الاختصاصات النادرة في دول الاتّحاد ممّن يسهمون في سدّ الثغرات المتواجدة في أسواق العمل الأوروبيّة" ، إذ إن الاتّحاد الأوروبي أقل الفضاءات الإقليمية استقطاباً لليد العاملة المهاجرة ذات الكفاءة العالية، حيث لا تتعدّى نسبتها في الاتحاد 1.7%، من مجموع العمال الأجانب، بينما ترتفع النسبة في أستراليا إلى 9.9%، وفي كندا إلى 7.3% وفي الولايات المتّحدة الأميركية إلى 3.2 %. كما خطّط ساركوزي في فرنسا لرفع نسبة العمالة عالية الكفاءة من 7 % إلى 50 % من مجموع العمالة المهاجرة في بلاده. وأوضح بارو حينها أن دول الاتّحاد الأوروبي عبر اعتمادها نظام منح "البطاقة الزرقاء" في تشريعاتها، تعطي إشارة واضحة لدول العالم المعنيّة مفادها أن خبراتها وكفاءاتها العالية ستكون موضع ترحيب من قبل دول المنظومة الموحدة، من حيث إجراءات الاستقبال، مثل ظروف العمل وكلّ ما يتعلق به من حقوق(التجمّع العائلي، التحرك والعمل داخل باقي دول الاتّحاد...)، وأضاف:"ستساعدنا هذه الخطوة على مواجهة التحديات القادمة، خصوصاً لجهة ارتفاع معدل أعمار الأوروبيّين، وما يفرضه من نقص في سوق العمل".
وبحسب أستاذ الاقتصاد مايكل سبنس، في مقال عائد إلى العام الجاري "الوظائف والبنية في الاقتصاد العالمي"(موقع بروجيكت سنديكيت(www.project-syndicate.org)، لا بدّ لكلّ البلدان، المتقدمة والناشئة،أن تسرع إلى معالجة القضايا المرتبطة بالشمولية والتوزيع والمساواة كجزء من جوهر استراتيجياتها في ما يتّصل بالنموّ والتنمية. إذ بيّنت الأزمة الاقتصادية الأميركيّة أحقيّة الشعار المناهض لهيمنة السوق، والقائل إن السوق هو الذي يحدّد الاتجاهات حول مَن ينبغي أن يعيش أو مَن ينبغي أن يموت (c'est le marché qui décide des orientations, de qui doit vivre ou mourir) . كما بيّنت الأزمة خطأ فكرة افتراض أن الأسواق تحلّ مشكلاتها المرتبطة بالتوزيع من تلقاء ذاتها؛ فالأزمة الاقتصادية التي بدأت في أميركا ارتبطت بأسباب هيكليّة ومشكلات مزمنة، لعلّ أهمّها بحسب الباحث ناصر أحمد بن غيث في مقاله "أصحاب الياقات البيضاء.. والاقتصاد الاسمي"(مجلة الرؤية الاقتصاديّة،23 يناير2011)، تضخّم الاقتصاد الاسمي أكثر من اللازم وتحوّل النشاطات المكمّلة والقطاعات الاقتصادية الهامشية إلى قطاعات أساسيّة ورئيسة تقود حركة النموّ في الاقتصادات الغربية، إضافة إلى تحوّل الكثير من رؤوس الأموال والأيدي العاملة من القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية إلى القطاعات الصورية غير المنتجة، مثل خدمات الدعاية والإعلان والتسويق والتحليل المالي وغيرها من النشاطات غير الحقيقية وغير الضرورية. إذ بالإضافة إلى صورية هذه القطاعات، فإنها كذلك غير مستدامة، ما يؤدّي إلى دخولها دورةً من النموّ الذي يستمر بضع سنوات تتلوه حركة تصحيح حادة تتجلّى في صورة أزمة اقتصادية شاملة.
تعليقات
إرسال تعليق