العواصم الثقافية العربية: "إكزوتيك" سنوي واستقطاب عربي وعالمي العدد: 106 التاريخ: 21/10/2011
تطرحُ العواصم الثقافية العربية تعريفاً لثقافتها الخاصة بمعناها الواسع، تُقدّم الثقافة من منظور تنموي جديد، وتربطها بجميع شرائح المجتمع، بما يلقي الضوء على اشتغالاتها بإنمائها المحلي والتواصل الإبداعي والإنتاجي فيها والإمكانات الثقافية والحضارية المتوافرة في هذه المجتمعات.
تُعزّز هذا الحدث السنوي، أشكال المثاقفة والحوار ما بين الثقافة العربية نفسها والثقافات الأخرى، خصوصاً وأن تجارب العواصم الثقافية العربية تمايزت حتى اليوم باختياراتها الثقافية الأوروبية والآسيوية عموماً، وأحيت أسابيع ثقافية خاصة بكلّ بلد عربي وفعاليات عالمية متنوّعة، ما أسهم إلى حدّ بعيد في خروج هذه المجتمعات من انغلاقها الثقافي نحو تعزيز المشاركة في الحياة الثقافية العامة، وبالتالي توظيف الثقافة كإحدى الوسائل الهادفة إلى التنمية (مواقع، متاحف، مسارح...). والاستثمار في الثقافة كصناعة أصبح من الأمور التي تعوّل عليها الدول المتقدمة في زيادة دخلها القومي، خصوصاً أنّ ما يُصرف على العاصمة حاملة هذا اللقب كثير، في الوقت الذي لا تصل فيه الموازنات المرصودة لقطاع الثقافة عموماً في مجتمعاتنا إلى مستوى الطموحات المعقودة.
يكتسب هذا الحدث الإكزوتيكي، الذي دخل إلى مجتمعاتنا حديثاً في مسعىً لمحاكاة تقليد أوروبي انطلق من اليونان في التسعينيّات، يكتسب أهميته في كونه يُعيد تأهيل ثقافتنا العربية ويطرح أسئلة ملحّة في صلب الثقافة وأحوالها ومستوى تطوّرها في مجتمعاتنا، وبالتالي قدرتها على خلق وعي جديد، ورؤية مختلفة لتنفيذ السياسات الثقافية المطروحة، ويمكّنها من الانتشار إلى أبعد والتوسّع نحو ثقافات أخرى، وإن كان أصل المناسبة قائماً على تجديد الاستعارة للفكرة وتنويعها. ذلك أن الحدث هو ليس تأملاً في الثقافة بمعناها الضيّق ولا ينبغي أن يتحوّل إلى مَعارض لبعض الإنتاج الثقافي نوعاً وكماً، وإنما يشكّل حلقة كاملة من حركة الأفعال والأفكار، وتجربة جدّية لإقامة تماس حقيقي مع الثقافات الأخرى، خصوصاً أنه لم يعد يخلو أيّ مهرجان ثقافي أوروبي يُقام في أيّ عاصمة أوروبية من مشاركة عربية. على سبيل المثال كان لافتاً أن معرض الكتاب الفرنسي في العام 2007 شهد حفلات توقيع كتب لأكثر من 25 كاتباً عربياً، وفي صيف العام 2008 شارك 90 شاعراً في مهرجان لوديف الفرنسي للشعر نصفهم من العرب، فضلاً عن ارتباط إنتاج عدد كبير من الكتّاب العرب بأماكن عيشهم في البلدان الأوروبية وهم يكتبون وينشرون ويبيعون في المهاجر حيث يقيمون، وبشكل خاص منهم، العراقيون والمغاربة والليبيون.
ولادة الفكرة أوروبياً
تعود فكرة العواصم الثقافية العربية إلى مؤتمرٍ للأمم المتحدة عُقد في المكسيك العام 1982، لاقتراح عددٍ من السياسات الثقافية وتفعيلها، بوصف الثقافة عنصرًا يجمع شعوب العالم. بعدها أخرجت الأمم المتّحدة الفكرة إلى حيّز الوجود في اجتماعها الرقم100 العام 1986، بإعلان العقد العالمي للتنمية الثقافية خلال الفترة 1988 - 1997، والذي لعبت منظمة الأمم المتّحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" الدور الأكبر في تفعيله، وكان من أبرز مظاهره، إطلاق سلسلة العواصم الثقافية الأوروبية؛ فكانت البداية من أثينا العاصمة اليونانية، ربما تقديراً لدور الثقافة اليونانية في الوجدان الأوروبي، إذ بادرت وزيرة الثقافة والممثلة السينمائية اليونانية ميلينا ميركوري قبل غيرها إلى فكرة العواصم الثقافية. هكذا توالت عواصم الثقافة الأوروبية، وجاءت بعد أثينا أنتوديرب، بلفاست، جلاسكو، ستراسبورج، سالونيك، (اليونان مرة أخرى)، لوكسمبورج، لشبونة، براغ، ريجا..
العواصم الثقافية عربياً
بادرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالتنسيق مع الدول الأعضاء وبالتعاون مع خبراء الوطن العربي، إلى إعداد وثيقة تتضمّن خطةً ثقافية عربية شاملة، جرى عرضها في العام 1985 على مؤتمر وزراء الثقافة في الوطن العربي في دورته الخامسة، واعتبرت الوثيقة إسهاماً من الدول العربية والمنظمة في العقد العالمي للتنمية الثقافية.
جاءت فكرة العواصم الثقافية العربية على غرار فكرة العواصم الثقافية الأوروبية في ضوء اقتراحٍ من المجموعة العربية في منظمة "اليونسكو" في اجتماعها العام 1995، ولاقت الفكرة تأييداً عربياً وتمّ إقرارها من قبل جامعة الدو ل العربية. اختيرت القاهرة أول عاصمة ثقافية عربية في العام 1996، وجاءت بعدها تونس العام 1997 والشارقة العام 1998، ثم بيروت العام1999 بناء على اقتراح المجموعة العربية في اليونسكو أثناء اجتماع اللجنة الدولية الحكومية للعشرية العالمية للتنمية الثقافية. أقرّ مشروع العقد العربي للتنمية الثقافية الذي قدّمته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم خلال انعقاد الدورة الحادية عشرة لوزراء الثقافة العرب في الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة في الفترة ما بين 21-22 نوفمبر1998، وتبنّى المجتمعون قرار اختيار العواصم الثقافية العربية ودعم ترشيحها لدى منظمة اليونسكو ليغطي العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين (2000-2009).
حملت 15 دولة عربية لقب العاصمة الثقافية منذ العام 1996 وحتى اليوم، قدّمت خلالها فكرة أخرى عن المدن التي تحظى بهذا اللقب، وكانت ريادتها للمرة الأولى للقاهرة كعاصمة لثقافة العرب، ثم أعقبتها على التوالي تونس، الشارقة، بيروت، الرياض، الكويت، عمان، الرباط، صنعاء، الخرطوم، مسقط، الجزائر، سوريا، القدس، وأخيراً قطر، واختيرت المنامة للعام 2012. ست دول عربية بقيت خارج اللقب وكلها تستحقّ أن تحتفي بالثقافي والفنّي والإبداعي في مجتمعاتها، وأن لا تتهاون في استقطاب ثقافات العالم لتجعل من هذا الحدث فضاء إبداعياً منافساً إنها دولٌ تستحق أن تصنع من عواصمها جسراً لتنمية ثقافية بين المراكز والأطراف بين العواصم العربية نفسها، وأن تجعل من عواصمها موسماً مميزاً لرسم معالم ثقافة إنسانية منفتحة على الآخر، محترمة لخصوصياته، متواصلة مع محيطها القريب والبعيد.
تعليقات
إرسال تعليق