عمر أزراج: قصة قصيدة
يوميات إبن الفقير في لجنة صياغة الميثاق الوطني
الحلقة الثانية
هنالك نقاش ساخن حول مفهوم الحادثة أو الحدث، وحول مفهوم الوضعية. السؤال المطروح هو: هل الحادثة هي التي تخلق الوضع أو الوضعية أم أن هذه الأخيرة هي التي تصنع الأولى؟ هذا النقاش يقود حتما إلى طرح أسئلة أخرى حول الهوية وهل هي معطى قبلي أم أنها نتاج لتشكيل حركة التاريخ وأنها ظاهرة قيد الصنع على نحو مفتوح.
- يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان باديو في كتابه "الوجود والحادثة" بأن "الحوادث تحدث بدون تحديد مباشر للأسباب التي تفجر نظام الوضعيات القائمة" ثم يضيف قائلا: "إذا كانت القرارات تتخذ من طرف الأفراد لفهم نتائج مثل هذه الحوادث فإن وضعيات جديدة تنبعث كنتيجة لعملها". ويضيف أحد شرّاح ألان باديو موضحا بأن "مثل هذه الحوادث لا تشكل جزءا مما هو موجود". وبدوري أقول بأن هذا يعني أيضا بأن الحادثة تلعب دورا مركزيا في صنع التاريخ بما في ذلك هويات الأفراد. لا شك أن حادثة إلقائي لقصيدة "العودة إلى تيزي راشد" المفاجئة لي وللآخرين والمتضمنة لمقطعها المتداول "أيها الحزب الوحيد تجدد، أو تعدد أو تبدد" في بسكرة في عام 1984 قد غيّرتني إلى الأبد، وفتحت لي أفقا جديدا كإنسان، وكشاعر وكاتب. إنه ينبغي القول هنا بأن بعض الأحداث ليس لها سبب مباشر واحد، ولكن لا يمكن فصلها أيضا عن ما أسميه بالتاريخ الداخلي غير المعلن في حياة الفرد وفي مسارات المجتمعات. هكذا يبدو لي أنه من الضروري تقصي هذا الجانب الذي يختفي في لا وعينا، ولكنه يعود بأشكال مختلفة ليعلن عن نفسه في أعراض وأقنعة شتّى. ما علاقة القصيدة بالأحداث؟ وهل الشعر انعكاس مباشر للحدث؟ أترك هذين السؤالين معلقين إلى حين لتجيب عنهما تفاصيل السرديات التي سأسردها خطوة خطوة.
- في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، ولا أذكر بالتحديد اليوم والشهر، دعاني الأخ الدكتور محمد العربي ولد خليفة الذي كان إذ ذاك كاتب دولة للثقافة والفنون الشعبية بالحكومة الجزائرية في عهد الشاذلي بن جديد أن ألتحق باللجنة الوطنية الفرعية لإعادة صياغة الميثاق الوطني إلى جانب عدد من المثقفين منهم رئيس القسم الثقافي بمجلة "المجاهد الأسبوعي" رقيق علاء الدين مكي وأحمد بجاوي الناقد السينمائي المعروف وبعض الوزراء وأعضاء اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني وأمانتها الدائمة أذكر منهم عبد الحميد مهري رئيسا للجنة الصياغة ومولود قاسم نايت بلقاسم، والراحل عبد الرحمان شيبان وعبد الحق برارحي. هكذا وجد ابن الفقير نفسه وجهها لوجه مع أهل الحل والربط وأعيان الدولة الجزائرية. خلال المناقشات الكثيرة والمتكررة بدأت أكتشف أن الوزير برارحي لا يعرف اللغة العربية كما كنت أتصور، كما استغربت أن يكون هذا المسؤول الأول على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لا يستطيع أن يعبر عن نفسه باللغة التي كانت السلطة الجزائرية -وهو جزء منها- تدعو إلى إقرارها بواسطة تعريب التعليم والمحيط العام. تساءلت في منولوج داخلي لماذا هذا الكيل بمكيلين؟ و لماذا لم يبدأ هذا الوزير بتعريب نفسه أولا؟
- ففي إحدى المرات نشب خلاف حول أركان الهوية الوطنية المطلوب تثبيتها في الميثاق الوطني المنتظر تعديله وكان هناك من لا يريد أن تُذكر الأمازيغية بصراحة في الميثاق، ولكن الأخ عبد الحميد مهري تدخل بحنكته الدبلوماسية لفض الخلاف وذلك باقتراحه أن تُحول هذه المسألة إلى رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد ليحسم فيها. في الكواليس قلت مازحا لصديقي مولود قاسم "أليس من واجبنا أيضا أن نثبت في الميثاق الوطني بندا يفرض على جميع الوزراء في هرم السلطة وعلى كل المسؤولين في كل دواليبها أن يتقنوا اللغة العربية جنبا إلى جانب الأمازيغية، واللغات الحية أو على الأقل واحدة من هذه اللغات الأجنبية؟" في هذه اللحظة ردّ عليّ مولود قاسم بسخرية لاذعة: "إذا فعلنا هذا فإننا سنخسر رئيس الجمهورية أيضا". هنا تذكرت بعض خطابات الشاذلي بن جديد التي كان يسمي فيها اللغة العربية باللغْوَة العربية! كما تذكرت النكتة الجزائرية عن أحد كبار المسؤولين في الدولة الذي ردد في إحدى خطاباته وهو يتحدث عن إشكالية الهوية ما يلي: "الحمد لله نَحْنَا كنا بعاد عن الهوية والآن وُلِينا قراب من الهاوية". هكذا تحولت الهوية على يد هذا المسؤول إلى هاوية، ومن لطف الله أننا لم نسقط فيها جميعا في ذلك الوقت على الأقل.
- لكم دهشت لتلك المناقشات التي كنت قبل أن أجتمع بهذه الكوكبة من أعيان الدولة أظن أنها ستكون حول مصير الجزائر وحول السبل التي تؤدي إلى تحديثها وإدخالها في فضاءات العصرنة، وحول بناء فكر متطور قادر على تشكيل الإنسان الجديد في بلادنا ولكن هيهات. مرة أنهينا الاجتماع برئاسة الأخ مهري كالمعتاد ثم اقتادني الراحل مولود قاسم إلى مكتبه وحدثني طويلا حول الفلسفة الألمانية وبعض تجاربه في ألمانيا وفي جامعة السربون الفرنسية حيث نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وفجأة انطفأت أضواء المكتب وغرقنا في ظلام دامس ولكن سي مولود واصل الحديث باستمتاع وكنت أصغي له بقلب مفتوح. بعد فترة وجيزة دخل علينا محمد جغابة الذي كان عضوا في اللجنة المركزية وأمانتها الدائمة ووجه الكلام للأخ مولود قاسم بنوع من الاستغراب أن نكون نتناقش في غرفة يلفها لحاف الظلام. حاول جغابة أن يضيء الغرفة فلم يفلح ويبدو أنه أدرك أن المشكلة تكمن في فساد الخط الكهربائي فقام بإصلاحه فورا وغمرنا سيل الضوء، ثم استدار سي مولود إلى جغابة وبيده جريدة "ديرشبيغل" الألمانية وابتسم ابتسامة عريضة وقال له مازحا محملا مزاحه بدلالات لا يفهمها إلا الفاهم: "يا ليتهم عيّنوك عضوا في اللجنة الدائمة لإصلاح الكهرباء".
تعليقات
إرسال تعليق