عمر أزراج يفجر قصته مع الحزب الواحد ويكتب للشروق:
عندما ينعقد مجلس وزراء طارئ من أجل قصيدة شعرية
بقلم: أزراج عمر
أيها المدمن برق الخمر في ليل المفازات وعشب السرّة الولهى وصفصاف الجسدْ وكواليس قصور الحكم في الحزب والدولة، عد نحو البلدْ والمدى الممتدّ نايا في شرايين الأبدْ قل وداعا، إن غرناطة روحي في ملفات المقاولْ قل وداعا، إن غرناطة في مبنى الدركْ هكذا ضاعت بلادي.
- مقاطع من قصيدة "العودة إلى تيزي راشد"
- أيها الحزب الوحيدْ
- أدرك الشيب الصغارْ
- أيها الحزب الوحيدْ
- غزت النار الديارْ
- أيها الجالس كالفقر علينا
- أيها الواحد كالقفر فإنّا
- نرفض النزهة في السجن والإنجاب في المنفى المشجرْ
- أيها الحزب المحجرْ
- أيها الحزب الذي فرّخ غابات الطحالبْ
- ونمت مثل المخالبْ
- إننا نطلب شيئا واحدا منك: تجددْ، أو تعددْ أو تبددْ
- فأنا القائل لا وَاحدَ إلا الشعب والباقي زبدْ
- آه أطفال البلدْ
- البسوا أحلامنا الحافيهْ
- ثم صيحوا في البراري: يسقط القيد وظل الطاغيهْ
- إنه الطوفان، لا شيء يقي الأعداء، لا البحر، ولا البر، ولا القصر،
- ولا السجن الذي دشن في قصر العدالهْ.
- أيها الحزب الذي يدعى الوسطْ
- إن شعبي قد قنطْ
- كل شعبي قد قنطْ
- صدق الكافر بالجنّة إن كان بها قوّادْ
- وشرطيٌ ولصٌّ وسوَطْ.
- آه ما أضيق خلخال الهواء في بلادي.
- عندما يروي الشاعر قصة إحدى قصائده فإنه يسرد بواسطة ذلك جزءًا من تاريخه الشخصي، وربما حكاية وطنه. فالشعر ليس فقط مرآة للأمة في أي زمان ومكان وإنما هو ملتقى طرق تواريخها. يقول أحد الشعراء الروس بأنه يجب على الشاعر "أن يدافع عن حظوظ الضمير، والحب، والصدق وحظوظ العصر، وينبغي بعد ذلك أن يهاجم الشر". لا شك أن الشاعر إنسان يعيش بين الناس ويعاني ما يعانونه ويحلم مثلهم بتحقيق وثبات التقدم والتحديث المادي والروحي في مجتمعه. وهكذا فالشاعر هو صاحب رسالة وبدون حمل أثقالها بشجاعة، وصبر، وتنفيذها بقوة الفن، وبصيرة الفكر فإنه يبقى على هامش التاريخ. إذا كان العرب القدامى اتفقوا بأن الشاعر هو ابن بيئته فذلك لا يعني مطلقا أنه نسخة نمطية من تلك البيئة حيث يرسمها كما هي ويثبت كل عناصرها الثقافية والفكرية والروحية والمادية بل فإنه يحوّل ويعدل ويغير هذه العناصر مجتمعة ويؤسس لجمالية التقدم والحداثة.
- أقول بأن الشاعر لا يعارض وطنه وإنما يعارض كل ما يسلب هذا الوطن قواه الروحية ويجمد أحلامه في الازدهار وفي تجاوز كل أشكال التخلف بما في ذلك الفقر التعبدي "الروحي" والمادي معا. اقتطف هنا ما قاله لي يوما الشاعر الداغستاني ـ الروسي "رسول حمزاتوف" عندما كنت ضيفاً عنده في بيته بجمهورية داغستان في التسعينات من القرن الماضي: " للشاعر ثلاثة معلمين: أولا الطبيعة، لأن أهم شيء هو أن الطبيعة ذكية، فإنها إن لم تمنح الإنسان ذكاءً فإنه سيعيش في قفص الحمق. إن الشاعر يفهم لغة الجبال والأنهار والنجوم. أما المعلم الثاني فهو القرون التي مضت، أي التاريخ الوطني، والمعلم الثالث هو قادة الفكر والعباقرة في كل زمان ومكان". على ضوء ما تقدم فإن قصيدة "العودة إلى تيزي راشد" قد نهلت من كل هؤلاء المعلمين وبذلك يمكن أن أقول أنها على صلة بالتاريخ وأقصد هنا تاريخ شعبي طوال حقب الاحتلال والاستعمار وفي فترة الاستقلال الشاحب.
- لا بأس أن أوضح بأنه في عام 1984 كنت أمينا وطنيا باتحاد الكتاب الجزائريين ومسؤولا عن العلاقات الخارجية في هيئته المنتخبة. لم أكن، إذ ذاك، مرتبطا بأي حزب معلن أو سري ولم تكن لدي أي علاقة بالسلطة السياسية أو بأي التزام نحوها. في تلك السنة بالذات شاركت في مهرجان محمد العيد آل الخليفة ببسكرة وفيه ألقيت قصيدة "العودة إلى تيزي راشد" التي قدمت فيها نقدا واضحا لحزب جهة التحرير الوطني باعتباره الواجهة السياسية للنظام الحاكم بقيادة الرئيس السابق الشاذلي بن جديد الذي لم يقدم أي جديد لحياتنا ما عدا تنصله من الاشتراكية البومدينية (نسبة لبومدين) والتي لم تكن تستند إلى أية نظرية فكرية علمية، بل كانت اشتراكية التخلف، وشراكة في التوزيع العادل للفقر الفكري والعقائدي، وفي تغييب التعددية بكل أشكالها. كما أن مرحلة الشاذلي بن جديد قد تمكنت بعصا الساحر من التمهيد لمرحلة الرأسمالية اللقيطة والمتوحشة في بلادنا. فور إلقائي لهذه القصيدة في ذلك المهرجان الذي تحول إلى فوضى صعد المحافظ الوطني لمحافظة ولاية بسكرة وعضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني السيد حمو لحرش وألقى كلمة اتهمني فيها جهرا وبصوت غاضب بخيانة مبادئ ثورة نوفمبر والاعتداء على سياسات الدولة والحزب الحاكم. عندئذ بدأت الملاحقات الأمنية تشن ضدي وفتش منزلي بدائرة الأخضرية بالكامل قبل أن أصل إليه من بسكرة، واستجوبت لثلاث ساعات كاملة بداخل وزارة الدفاع وصودرت مني وثائقي الرسمية التي هي حق وطني، وأمرت من طرف ثلاثة ضباط بالتوقيع لمدة مفتوحة حتى إشعار آخر كل صباح في مركز الأمن المركزي الذي يجاور فندق السفير (الأليتي سابقا).
- في هذه الأثناء بالذات أوكل ملفي والقصيدة معا للعقيد "مصطفى بن عودة" عضو اللجنة المركزية وأمانتها الدائمة ومسؤول الانضباط فيهما وراح هذا الرجل يوغل في تضييق الخناق حولي بموازاة مع جهاز أمن الدولة. وفي إحدى الليالي تعرضت في شارع "طونجي" بالعاصمة لهجوم بسيارة سريعة رمتني بقوة ثم غادرت المكان بالسرعة ذاتها وعندما عاد إليّ الوعي وجدت نفسي ملقى فوق قمامة مطاطية ومغموسا في دمائي النازفة بغزارة ثم توجهت إلى المستشفى حيث ربطت جراحي الكثيرة، خاصة في الوجه والرأس، بالغرز.
- وفي الأيام التالية تم تداول أمري في مجلس الوزراء برئاسة الرئيس الشاذلي بن جديد قدم لي حيثيات ما جرى الصديق الراحل "عبد الرحمان شيبان" الذي كان وزيرا للشؤون الدينية آنذاك. لما بدأت التعقيدات تحاك ضدي أمنيا وحزبيا توجهت إلى صديقيّ مولود قاسم وعبد الحميد مهري وتحدثت إليهما بخصوص وضعي الخطير كل على حدة، مع العلم أن كلاهما كانا عضوين في اللجنة المركزية وفي أمانتها الدائمة. لقد دار بيني وبين الصديق الراحل "مولود قاسم" حديث طويل في جو متوتر سأسرد حيثياته فيما بعد. عندما قابلت الأخ عبد الحميد مهري في مقر عمله اقترح عليّ بحكمته المعهودة فيه باختصار شديد وبلهجة فيها من التعاطف الكثير "أن أغادر البلد حتى ينسوني وأنساهم". وبالفعل قد عملت بوصية الأخ مهري وغادرت بطرق خاصة إلى بريطانيا منفاي الذي حملت معي إليه في جوانحي بلدي الجزائر وشعبي الذي أحب.
- في الحلقات المقبلة سأروي تفاصيل قصة هذه القصيدة، وسيرتي الشعرية كابن فقير عاش الثورة التحريرية كطفل تجرع الآلام بكل أنواعها، وكشاب شاعر وكاتب يريد أن يكون الشعر خلاصا له، ولعثرات الوطن، وكمغترب كرّس وما زال يكرس حياته للتحصيل الثقافي والفكري، وللعمل الإعلامي بانتظار العودة إلى تيزي راشد، البلدة التي بدأت فيها رحلتي الشعرية.
تعليقات
إرسال تعليق