يَدُهُ الملتصِقة بفخذه عبر
جيبه المثقوب كادت تبدي عورته.. حذاؤه المخروم و جوربه الممزّق يزيدان من قلقه على
دفاعاته المستميتة ضدّ عيون السّوء.. فرجك الذّي وعدت يا آ الله، هكذا كان يحدّث
نفسه كلّما مرّ بدرب من دروب المدينة الحاقدة عليه.. كلّ مساء يرجع محمّلا بالأسى
و الحزن لكنّه ينسى ذلك بمجرّد ولوجه إلى منزله الذّي يشبه الكوخ في تواضعه، يلقي
بجسده المتهالك على ما يشبه السّرير في امتداده و يبكي كطفل صغير.. كان يبكي حتّى
تتبلّل لحيته الكثّة من فرط الحزن، يسمعه ابنه الكفيف فيأتي مهرولا لا يرى شيئا، يمسح
العبرات على خدّي والده و يسأله: إلى متى يا أبت؟.. يصمت سي الطيّب و يقول: إلى أن
يشاء الله يا ولدي، هل صلّيت العشاء؟، فيجيبه عبد الجبّار: نعم يا أبت، وقد دعوت
الله لك في سرّي، قم لتتعشّى. ينهض سي الطيّب، يحاول ترتيب بعض الفوضى التّي تحيط
به، ثمّ يقول لابنه: بيننا و بينهم مسافة يوم.
-
يوم؟!!، كيف ذلك يا أبت؟!!.
-
عندما كنت في المعتقل كنت أنظر إلى وجوه جلاّدينا و
أقول:
يا سبحان الله، ما أقرب
الشّجرة !
ما أبعد الشّيطان !
ما أجمل الإيمان !
كان أحدهم يقف فوق رأسي مباشرة
و يركلني، أمعن النّظر فيه فيرتاب، وينكص على عقبيه خائفا منّي كما لو رأى وحشا
كاسرا، كنت أقول:
يا سبحان الله، ما أقرب
الشّجرة !
ما أغدر الإنسان !
ما أبطش السّلطان !
كنت أرى قرص الشّمس قريبا،
أحدّث النّجوم و أعدّها ثمّ أنام.. لم أفكّر يوما في نفسي، كنت أراك و قد كبرت و
صرت رجلا، كنت أعِدُ نفسي أن أحضنك و أقبلك، و أحنو عليك كما حلمت بذلك لكنّني
عندما أذكر الأسر أبكي كثيرا.. كنت أراك و أنت تمدّ يديك إليّ، قائلا: أبي، لا تخف
فأخاف...
كنت تقول لي: أبي، لا تيأس
فأيأس... كنت أراك مريضا و الرّمد يأتي على عينيك و لا أستطيع فعل شيء، كنت عاجزا
عن فعل أيّ شيء ينقذ عينيك و يمنحك الحياة.. كنت أبكي لأنّني صرت مجرّد رقم.. السّجين 0911.. إنّه الرّقم الذّي نغّص حياتي و جعل النّوم يجافيني.. كنت أشعر
بإعاقتي في كلّ لحظة أذكرك فيها، كان طيف والدتك المرحومة يلاحقني، كانت وصيّتها تكاد
تصمّ أذنيّ من الرّنين و الصّدى.. وقد أمعنوا في إهانتي و إذلالي قرّرت أن أجد
مخرجا لهذه الحالة التّي أرهقت أعصابي، وقتلت روح الكبرياء فيّ، كنت أسأل ما العمل؟...
في وادي النّاموس لم نكن في سجن عاديّ، كنّا في معتقل، منعوا عنّا كلّ شيء؛ و أوّل ما جاء
في قوائم المنع كلّ ما له علاقة بالكتابة؛ أوراق، أقلام،
أحبار، طبشور، حائط... إنّه الجنون !.
... ( يتبع )
قلم: أحمد بلقمري
تعليقات
إرسال تعليق