ليبيا وصعوبات الانتقال إلى الدولة الجديدة
العدد: 115 التاريخ: 11/11/2011
أما وقد قتل معمّر القذافي، وانطوت صفحة مديدة وصاخبة من حكم دام 42 عاماً، ألغى خلالها مفهوم الدولة المتعارف عليه، لحساب فكرة "يوتوبية"، مفادها أن الشعب يحكم نفسه بنفسه، من خلال المؤتمرات الشعبية، واللّجان الثورية، يبرز السؤال الملح الآن: أيّ ليبيا ستولد الآن؟ من سيحكم هذا البلد الشاسع بمساحته، والغني بموارده النفطية والطبيعية المختلفة؟
فالثورة اللّيبية حققت انتصاراً كاسحاً على النظام السابق، لكنها في المقابل أخرجت، كما يقال إلى السطح، قوى مختلفة، بعدما كانت مؤتلفة: إسلامية وليبرالية وقبائلية وحتى ملكية، يبدو أنها في هذه المرحلة ليست متفقة على هوية الدولة، وإدارة النظام السياسي لليبيا الجديدة، على الرغم من أن المجلس الانتقالي اللّيبي، برئاسة مصطفى عبد الجليل، كان قد وضع خارطة طريق انتقالية، اعتبرت بمثابة وثيقة دستورية مؤقتة تضمّنت 37 بنداً لتسليم السلطة، وإجراء انتخابات بعد 8 أشهر لتشكيل جمعية وطنية ستمضي عاماً كاملاً في إعداد دستور جديد للبلاد قبل بدء إجراء الانتخابات البرلمانية.
وفي كل الأحوال بدأ المجلس الإنتقالي اللّيبي أولى خطواته في اتجاه بلورة مشروع الدولة اللّيبية الجديدة بانتخاب أستاذ الهندسة الكهربائية د. عبد الرحيم الكيب، ابن العاصمة طرابلس، رئيساً للحكومة المؤقتة (دكتوراه دولة في جامعة نورث كارولينا الأميركية)، والتي صار معروفاً أنها ستتألف من 24 وزيراً تكنوقراطياً، ولن تكون على حدّ تعبيره "حكومة محاصصة على الإطلاق"، وستنفتح على جميع اللّيبيين دونما استثناء وبلا إبطاء.
كما وعد باتخاذ إجراءات لضمان استيعاب الثوار في مؤسّسات المجتمع، وإعادة دمجهم في الحياة المدنية، وعودة العسكريين منهم إلى وظائفهم الأصلية في الجيش والشرطة والأمن العام. وقال "نعلم جيداً إن أخوتنا يبادلوننا الرأي، ويعرفون جيداً أن الاستقرار والأمن والأمان، هي أمور مهمة جداً، وأنا متأكد أن حملهم للسلاح ليس إلا لغرض الأمن والأمان، وما هي إلا مسألة وقت".
بعد يومين فقط من كلام رئيس الحكومة الانتقالية المكلّف، ووعوده الجدّية هذه، حصلت اشتباكات دامية بين فريقين من الثوار في طرابلس، أسفرت عن مقتل وجرح أكثر من 10 أفراد منهم. وكانت المواجهة - كما تقول صحيفة الدايلي تلغراف البريطانية - قد بدأت عندما اعترض مسلحون من "كتيبة طرابلس" طريق مسلحين من مدينة "الزنتان" كانوا يحاولون دخول المستشفى المركزي في طرابلس لقتل شخص مصاب.. وكانت اشتباكات عنيفة استخدم فيها الطرفان المدافع الرشاشة وقذائف الدبابات والأسلحة المضادة للطائرات، دامت من الساعة الواحدة صباحاً حتى طلوع الشمس.. ولم تتوقف إلا بعدما قدم شيخ من مسجد قريب وأقنعهم بوقف إطلاق النار.
هذا الاشتباك يلخص حالة اللااستقرار الأمني والسياسي التي تعيشها ليبيا هذه الأيام، خصوصاً في العاصمة طرابلس، التي ينتشر فيها السلاح على نحو عشوائي غير مسبوق، وبأيدي أفرقاء/ حلفاء بدأت تدبّ فيهم عواصف الخلافات والعداوات بأسرع ممّا قدر لها. طبعاً هذا الفلتان المسلح، ومثله كثير في مدن ليبية أخرى مثل مصراتة وصبراتة والزاوية وتاجوراء وحتى بنغازي، لا يعتبر استثناء في بلد كل شيء فيه مفكك الآن، وينتظر من يلّم حطامه، ويعمل بجدية على بناء أسس الدولة الديمقراطية المنتظرة فيه، بدءاً من نقطة الصفر.
السؤال الآن هو: هل انتقلت ليبيا من صراع من أجل الديمقراطية إلى صراع على شكل الديمقراطية؟
الجواب يقدّمه الأفرقاء اللّيبيون المعنيّون هنا، والذين يبدون أنهم في صراع لا يستهان به على السلطة، إذ طالب مثلاً إسلاميون بحصة الأسد من حقائب الحكومة المقبلة. كما طالب ليبراليون بحصة وازنة وحتى مماثلة.. كما طالبت قبائل سبها والجفرا والزنتان ومصراتة بأنها لن ترضى بأن تكون مهمشة ومعزولة عن مركز القرار أبداً.
كما ظهر الصراع على السلطة جلياً، حتى قبيل إعلان تحرير سرت، بين تيار جماعة الإخوان المسلمين، الذي يمثله الشيخ علي الصلابي، المقيم في قطر من جهة، وبين محمود جبريل الشخصية الليبرالية من جهة أخرى.
يقول الخبير اللّبناني بالشأن اللّيبي، وليد الحسيني: "لا شك أن الإخوان المسلمين يرغبون في فرض النظام على العاصمة طرابلس، التي يعيش فيها اليوم أكثر من مليوني إنسان حالات ذعر من الفوضى المسلحة، وغرائز الانتقام، لكن، يحدّ من تنفيذ هذه الرغبة، الخوف من أن تنقلب الأمور إلى صدامات مسلحة داخل أكبر مدن ليبيا، مع خطر انتقالها إلى مدن أخرى. لهذا يلجأ المجلس الانتقالي إلى تفاهمات مع قيادات هذه الميليشيات المسلحة لا تصمد طويلاً، بسبب فقدان هذه القيادات السيطرة التامة على عناصرها المسلحة... وبينما يطلق المجلس الانتقالي الدعوة لحلّ الميليشيات بضمّ المسلحين إلى قوى الجيش والداخلية، فإن القيادات الميليشياوية تعلن رفضها هذا الحلّ قبل معرفة حصتها في الحكم".
ويقدّر عدد المجموعات المسلحة في طرابلس وحدها الآن بـ 27 مجموعة على الأقل؛ كل واحدة مع حليفاتها تتأهب للأخرى مع حليفاتها. ويلوم البعض المجلس الانتقالي بعدم إسراعه بتشكيل الهيئات الإدارية التي ستتولى حفظ الأمن، والحدّ من "سلطات" هذه المجموعات. وإن كان يرى هذا البعض أن الأمور لا تزال "تحت السيطرة نوعاً ما " وأن كل ما يجري هو وجود "مندسّين " يشوهون سمعة الثوار.
إذاً، فوضى السلاح وعشوائية الكثير من حامليه وانقساماتهم إلى حدّ المواجهات الدامية، وفي أيّ لحظة، هو أخطر تحدّ يواجهه مشروع قيام الدولة الجديدة في ليبيا.
القبائل معضلة المعضلات
أما التحدّي الآخر، فهو معضلة القبائل، والتي لم يسلِّم بعضها بما جرى، خصوصاً بعد حالات التمثيل التي تعرض لها القذافي، فهدّد بالانتقام له. فهذا ابن قبيلة ورفلّة مفتاح م.، كبرى القبائل اللّيبية عدداً، وانتشاراً جغرافياً، والأكثر موالاة للنظام السابق، بعد قبيلة القذاذفة يقول للصحافية الايطالية ماريا تافريكوني: "من يَغدر سيُغدر به عاجلاً أم آجلاً".
وفي إشارة إلى عدم انتظام قبيلته (ورفلة)، التي تعدّ أكثر من مليون شخص، في أي اتفاق على دولة جديدة، أضاف مفتاح م. يقول للصحافية الإيطالية ماريا تافريكوني: "على أيّ حال لقد شكلوا لجنة للتحقيق في الأمر.. نتمنى أن تكون جادة وصادقة وإلا لا دولة لنا معهم، ولا اتحاد ولا وحدة.. عليهم أن يحاسبوا من خالف شرع الله، والشرف القبلي، وبعدها ننظر في الأمر".
وثمة قبائل ليبية مركزية أخرى مثل المقارحة، والمقراصة، وأولاد سليمان، والطوارق، والتبو، وكلها كانت داعمة للنظام اللّيبي السابق، ولا تزال تمارس تضامناً قبائلياً صامتاً في ما بينها، وتنتظر ما سيقدم لها على أرض الواقع.
هذا أمر يدركه جيداً رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل. كما تدركه معه سائر القيادات اللّيبية الجديدة من رسمية وشعبية وقبائلية إلخ. ولذلك هو أكثر من جاد وصادق، في سعيه الحثيث لحل هذه المعضلة المعقّدة، ولتطييب خواطر جميع القبائل، خصوصاً أن أكبرها وأكثرها نفوذاً يتركّز في الغرب اللّيبي. ومن هنا كان سريعاً جداً ميل المجلس الانتقالي الليبي لانتخاب ابن طرابلس د. عبد الرحيم الكيب رئيساً للحكومة الليبية بأغلبية الأصوات (أصوات المجلس الإنتقالي). والهدف طبعاً إيجاد نوع من توازن بين الغرب الليبي وشرقه، ولإرضاء القبائل الوازنة مثل "ورفلة" "والمقارحة" "والقذاذفة" "والزناتة" (حكمت طرابلس قرابة 150 سنة) وجذبها للحوار حول بناء الدولة الجديدة.
بدوره يدرك أول رئيس وزراء ليبي منتخب في ليبيا د. عبد الكريم الكيب أهمية مراعاة المسألة القبلية وتأثيرها في تشكيل الحياة السياسية في بلاده.. ولذلك قال في حديث صحافي لـ"الشرق الأوسط": "إن أيّ محاولة لجمع السلاح المنتشر بكثافة في ليبيا الآن، لن تتمّ سوى بوضع آلية للمصالحة الوطنية".. أي المصالحة بين القبائل في المقام الأول. وأردف: "هناك عناصر من النظام السابق، وهناك بعض المدن التي تبنّت الوقوف ضدّ الثوار، لكنهم إخواننا، ونريد أن نشعرهم بالأمن والاطمئنان حتى يعيشوا معنا بشكل طبيعي".
التخوف من واقع الدولة الفاشلة
وهناك تحدّ ثالث تواجهه ليبيا الجديدة يسميه المحلل الاستراتيجي المصري د. خالد حنفي علي "احتمال "توطّن" قوات الناتو على سواحل ليبيا، كمقدمة لتعزيز وجودها العسكري في الشرق الأوسط، والدفاع عن مصالحه النفطية والأمنية". وهو أمر يرفضه المجلس الانتقالي على لسان مصطفى عبد الجليل، الذي أعلن أكثر من مرة، أنه يعارض وجود أيّ جندي غربي على الأرض الليبية. لكن هذا لا يحول دون أن يكون هناك أكثر من دور للناتو، بحسب د. خالد حنفي علي، من خلال "الأمن الناعم"، ولا سيما على صعيد تشكيل المؤسّسات الأمنية، ومساعدة ليبيا في عملية التحوّل الديمقراطي، فضلاً عن مواجهة أي خطر محتمل لسيطرة متشددين على الحكم في ليبيا، مثلما حذّر "راسموسن" من خلال لقاء له مع مصطفى عبد الجليل.
ولا يمكن وسط هذه الخارطة المعقدة، تجاهل فلول أنصار القذافي، الذين يشكلون نسبة يستحيل تقديرها في أجواء المطاردات التي يتعرضون لها حالياً.. على الرغم من أن غالبيتهم تدرك أن عهد القذافي انتهى، وأنه لا فائدة من السير وراء نجله سيف الإسلام لاحقاً.. هذا إذا قُيِّض له أصلاً أن يظهر مرة أخرى في ليبيا بعد الآن.
سيناريو ما بعد القذافي لا يزال يقلق في الحقيقة كثيرين داخل ليبيا وخارجها. وكذلك يقلق العديد من محللي مكافحة الإرهاب، والحرصاء على وحدة ليبيا، وتماسك شعبها، وعدم تحولها إلى دولة فاشلة على غرار أفغانستان والصومال.
تعليقات
إرسال تعليق