جنّتها ( الكاتب عبد الرّشيد حاجب/ الجزائر)..
الأستاذ: عبد الرّشيد حاجب |
طوال فترة الانتظار و هو يتساءل كيف سيكون اللّقاء بينهما، كيف سيقضيان وقتهما، و ماذا عساهما سيقولان لبعضهما بعد أحاديثهما (المسنجرية) التي كانت تستمرّ ساعات و ساعات... الآن، وقد عاد من زيارتها في بلد الياسمين، لا يذكر أنّها تكلّمت، و لا يذكر أنّه قال شيئا، لكنّه كلّما تمدّد على السّرير بدأ جسده يسترجع حكايات و حوارات طويلة بنكهة عصر ما قبل التّفاح... في الصّباح الباكر، شوهد متوجّها نحو المطار... لقد قرّر أن يطرق باب الجنّة من جديد. – تمّت-
قراءة في نصّ (جنّتها )
للكاتب المبدع عبد الرّشيد حاجب.
العنوان: (جنّتها).. متكوّن من لفظة (جنّة) و ضمير الغائب المتّصل الهاء (ها) الذّي يعود على المرأة (جنّتها هي). لفظة الجنّة مفتوحة على التأويل لكنّها تعود بالقارئ مباشرة إلى المفهوم الدّيني الواسع للجنّة و هو ما يساعد على فهم سياقات النّص المركّب( كتابات عبد الرّشيد حاجب هي في الغالب كتابات مركّبة، عبد الرّشيد حاجب هو كاتب ذو فكر متشعّب المرجعيات خاض في المجالات الإبداعية و الفلسفيّة و البلاغية و التاريخيّة..)، الجنّة بمفهوم الخلاص من الشقاء على الأرض(لدى المسيحيّين و اليهود)، و الجنّة بمفهوم الحياة الخالدة(دار النّعيم و القرار في الآخرة لدى المسلمين- حياة لا موت فيها -). و ليكن مدخل قراءتنا لنصّ عبد الرّشيد حاجب بدءا بأمارات التّقطع في هذا النّص الذّي جاءت جمله متسلسلة، منسجمة متّسقة (ثلاثة فصوص)، كما نجد حاجب قد استعمل الوحدات العائدية (ضمير الغائب المتّصل –ها/هما-)، و الإضمار(ضمير المستتر هو/هي). هذه الظّواهر اللغوية تسعى إلى تنامي النّص و تناسله، و تضمن استمراره.
1.
] طوال فترة الانتظار و هو يتساءل كيف سيكون اللّقاء بينهما، كيف سيقضيان وقتهما، و ماذا عساهما سيقولان لبعضهما بعد أحاديثهما (المسنجرية) التي كانت تستمرّ ساعات و ساعات... [
كان ينتظر حبيبته البعيدة عن العين القريبة من القلب، كان يحدّثها عبر الأنترنيت(واحدة من الوسائط الحديثة للاتّصال)، كان يحلم بلقائها و بالوقت الذّي سيقضيانه معا.. كان ككلّ محبّ يفكّر فيما سيقوله لحبيبته إذا ما لقيها خاصة و أنّ اللّقاء سيكون وجها لوجه، جسدا لجسد و روحا لروح، سيكون لقاء في ساحة الوعي، و ستكون الكلمات حاضرة دون شكّ، الكلمات المفعمة بالحياة و الحبّ و الجنس ربّما.. هنا وصف لصورة و حالة الفرد الشغوف و التوّاق للقاء حبيبته التّي أضمرها الكاتب، وهو الأمر الذّي يفتح الباب واسعا نحو التأويل(إنّها تقنية عالية، ومهارة لغوية)، قد تكون المرأة (قد تكون العشيقة/ الزّوجة/ الأمّ/ الابنة...)، و قد تكون الأرض(الوطن).
2.
] الآن، وقد عاد من زيارتها في بلد الياسمين، لا يذكر أنّها تكلّمت، و لا يذكر أنّه قال شيئا، لكنّه كلّما تمدّد على السّرير بدأ جسده يسترجع حكايات و حوارات طويلة بنكهة عصر ما قبل التّفاح... [
استخدام الكاتب للأزمنة الفعلية و انتقاله السلس من زمن الماضي إلى الزّمن الحاضر مستعملا لفظة الآن يؤكّد الانسجام و الاتساق بين حدود النّص و يقوّي البناء المعماري له. لفظة الآن تدلّ على الانتقال من فضاء إلى فضاء، من زمن إلى زمن، وهنا نقف على حقيقة النّزوع المُلِح سعيا للعيش في مكان آخر و بعد آخر في الوقت المناسب. ( الآن، وقد عاد من زيارتها في بلد الياسمين)، وكأنّ صاحب النّص قفز بالمتلقي بسرعة كبيرة جدّا في مسألة ميتافيزيقيّة (الطرّح الأنطولوجي حاضر أيضا إلى جانب تمظهر النّص و تشكّله في فضاء- زمن معيّن)، بلد الياسمين هل يعني شيئا؟، هذا ما سنعرفه في نهاية النّص. هذا الطرح و بهذا الشّكل جعل المتلقّي يبدأ من حيث هو – من الآن -(كأنّ النّص بدأ من جديد، و كأنّ الفصّ الأوّل كان عبارة عن مدخل/ تصدير(لحظة صامتة) متروك للقارئ كي يحلّ شيفرته، بعد الآن يبدأ المتلقّي في الاستماع إلى المونولوج في سجل الأنا. الكاتب يقول عن البطل بأنّه لا يذكر بأنّها تكلّمت، هل هي الأرض؟، أم المرأة الحبّ البعيد القريب، أم الأمّ... نقف هنا على حافة اللساني و اللاوعي، لذلك وجب الاستعانة بعلم النّفس لتحليل هذا الخطاب(المونولوج)، وهنا يقول لاكان مؤسس علم النّفس اللاكاني:"اللاّوعي هو الكلام"(لاكان. كتابات. ص 866)، كما يقول:"ليس للاوعي نفسه بنية أخرى في نهاية الأمر إلا بنية الكلام ( لاكان. الحلقة الدراسية، الكتاب السابع، ص 42). من هنا نستنتج بأنّ صاحب النّص باستخدامه للفظة الآن استدعى التّزامنية و الخطيّة و دلّ على لحظة الاتصال اللاواعي مع البطلة التّي لم يصرّح بهويّتها، فقوله بأنّه لم يذكر أنّها تكلّمت يدلّ على أنّ شوقه لها و تلهفه للقائها جعله لا يذكر كلامها و غطّى على حقيقة الموقف، و قوله بأنّه لم يذكر شيئا يدلّ على أنّه لم يذكر شيئا من فرط ما شاهد منها، هنا إشارة إلى أنّ حدثا ما شغله عنها، و هذا ما تفسّره الجمل المتتابعة بعد ذلك عندما قال حاجب بأنّ البطل كان كلّما تمدّد على السّرير بدأ جسده في استرجاع الحكايات و الحوارات الطويلة، هذه إشارة مهمّة إلى أنّهما تكلّما كثيرا عند لقاءهما ليس على الميسنجر ( الأنترنيت) و إنّما على الطبيعة ( وجها لوجه )، ولم يكتف صاحب النّص بهذه الإشارة حيث قدّم تفاصيل لهذا اللّقاء الحميمي الذّي كان بنكهة عصر ما قبل التّفاح. يعود الكاتب إلى الترميز و المزج بينه و بين بعض العناصر في النّص(دخول التّشكيل البنائي)، اللّقاء كان بنكهة عصر ما قبل التفّاح، النكهة تعني المذاق و العصر يحمل كلّ المعاني الممكنة للكلمة( عصر بمعنى دهر و ملجأ و منجاة، و عصر بمعنى مرحلة من الزّمان)، كما تحمل لفظة عصر معنى آخر و هو الأقرب إلى ما أراده الكاتب( عصر بمعنى استخراج ماء الشّيء)، إذن عصر ما قبل التّفاح تقبل عديد القراءات و المعاني ( عصر ما قبل التّفاح و هي المرحلة الزّمنية التي سبقت فعل العصر، كما قد تكون مرحلة ما قبل السّكر بعصير التّفاح، كما قد تقبل العبارة معنى عصر ما قبل الخطيئة – أكل آدم من الشجرة/ شجرة التفاح - و هذه إشارة إلى غواية امرأة خطرة لربّما أدمن حبّها و وقع في الخطيئة معها ).
3.
] في الصّباح الباكر، شوهد متوجّها نحو المطار... لقد قرّر أن يطرق باب الجنّة من جديد. [
إنّ القراءة الأخيرة لعبارة عصر ما قبل التّفاح جعلتنا نقترب من حلّ شفرة النّص و الوقوف على المعنى العميق له، هذا ما يؤكّده الفصّ الثالث من النّص أين يتوجّه البطل نحو المطار صباحا بعدما قرّر أن يطرق باب الجنّة من جديد، و هنا علينا أن نوضّح بعض التّفاصيل المتعلّقة باتّجاه النّص نحو القفلة الصّادمة، المربكة و غير المتوقّعة بالنّسبة للقارئ المستعجل، في حين تعتبر قفلة منسجمة و متسلسلة و خطيّة النّص في إطار البناء المعماري المتكامل له. البطل وفق تحليلنا رجع إلى جنّته في الزّمن المستقبل، هذه الجنّة بقيت غير معرّفة، قد تكون جنّة غواية عشيقته، قد تكون جنّة أمّه أو زوجته، كما قد تكون جنّة موطنه الأصلي ( لربّما قرّر أن يرجع إلى أرضه بعد غربة طويلة ).
إنّ أسلوب كتابة المبدع عبد الرّشيد حاجب تحمل مشروعا منهجيّا لكتابة القصّة القصيرة جدّا في الوطن العربي، لذلك تعتبر مستغلقة لمن يطرقها و يتعامل معها أوّل وهلة لا سيما القارئ المستعجل صاحب الزّاد المعرفيّ القليل، هذا المشروع يتجاوز إطار تحليل النّصوص بطريقة سطحيّة و يتطلّب دراسات نقديّة أكاديمية عميقة تحفر في المعنى العميق للنّصوص و تستخرج الأصول و القواعد.
قلم: أحمد بلقمري
تعليقات
إرسال تعليق