الشّاعر ... ووزارة الدفاع
![]() |
عمر أزراج |
توجهت إلى بسكرة لأشارك في مهرجان الشعر "محمد العيد الخليفة" الذي كنا ننظمه مرة كل سنة حسب التقليد الجديد الذي صممناه في اتحاد الكتاب الجزائريين من عام 1981 إلى عام 1985 بإجماع أعضاء اللجنة المديرة والأمانة التنفيذية التي كنت فيهما إذ ذاك أمينا وطنيا مكلفا بالعلاقات الخارجية. في تلك المناسبة لم أكن أنوي أن أشارك بإلقاء قصيدة، بل كان قصدي أن أساهم في تنظيم المهرجان وكفى، ولكن عند الوصول إلى بسكرة سألني عدد من الشعراء الزملاء عن القصيدة التي سوف أشارك بها فأخبرتهم بأن دوري هو أن أفسح المجال لهم وللمواهب الجديدة غير أنهم ألحوا عليّ أن ألقي شيئا ما. في الليل جلست في غرفتي بالفندق وبدأت أفكر طويلا وعميقا، فإذا بي أتذكر ذلك السائق الذي لامني على انخراطي في اجتماعات حزبية وعدت كذلك بذاكرتي إلى أيام حرب التحرير الوطني والعذابات التي مررت بها ومرّ بها جيلي وإلى خيبة الاستقلال وتحول "الجبهة" التي قادت حركة التحرر الوطني إلى جهاز بيروقراطي رافض للتعددية السياسية ولحرية الرأي. جلست إلى الطويلة وبدأت القصيدة تكتبني بنفسها بتلقائية وسلاسة مدهشة. ووضعت لها عنوانا "أيها الحزب الوحيد" ثم عدلت عنه واستبدلته بعنوان العودة إلى "ثيزي راشد". بعد اكتمال القصيدة صرت أدور في الغرفة، وأقرأها بصوت عال ومن ثمة استسلمت إلى النوم. في اليوم التالي بدأ المهرجان وافتتحه المحافظ الوطني "عضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم" علي الأحمر وأعضاء التنسيق مجلس الولائي بمن في ذلك مسؤول القطاع العسكري والقطاع الأمني بالولاية. تناوب الشعراء على المنصة، وعندما جاء دوري صعدت إليها وشرعت في إلقاء القصيدة التي كتبتني في تلك الليلة الصحراوية الجميلة. بدأتها بهذا المقطع الذي صار شهيرا فيما بعد وكلفني 22سنة من الغربة:
"في طريقي نحو ثيزي راشد الزهو وأجراس الكرز
أوقفتني نسوة القرية قرب النبع، كان الفجر عنقود عسل
ويمامات قبل.
بغتة غنّين لي: فلتقترب أيها المدن عشب السرة الولهى وصفصاف الجسد
و كواليس قصور الحكم في الحزب والدولة، عد نحو البلد
والمدى الممتد حداء في انحناءات الأبد
قل وداعا، إن غرناطة روحي في ملفات المقاول
قل وداعا، إن غرناطة في مبنى الدرك
هكذا ضاعت بلادي
أيها الحزب الوحيد.
أيها الحزب الوحيد
أدرك الشيب الصغار
أيها الحزب الوحيد
غزت النار الديار
أيها الجالس كالفقر علينا
أيها الواحد كالقفر فإنّا
نرفض النزهة في السجن والإنجاب في المنفى
أيها الحزب المحجر
إننا نطلب شيئا واحدا منك: تجدد، أو تبدد، أو تعدد
فأنا القائل لا واحد إلا الشعب والباقي زبد
آه يا أطفال البلد
البسوا أحلامنا الحافيه
ثم صيحوا: يسقط القيد وظل الطاغيه
هنا دوت القاعة بالتصفيق، ثم واصلت قراءة المقاطع الأخرى تحت وابل من طلب الجمهور أن أعيد المقاطع الأولى وفعلت وأنا في حالة من التوتر والانفعال والفرح المغلف بقفطان الحزن. كنت ألقي وأتماهى روحيا مع أسراب الكلمات ومع جدائل الفواصل وكأن القصيدة لحظة ميلاد إنسان جديد بدأ يخرج من رحم أمه ويصيح صيحته البكر ليعانق أرض مليون ونصف المليون شهيد وشهيدة.
نزلت من المنصة ورأيت القاعة مغمورة بالهرج والمرج وكأن شيئا ما غريبا قد حدث. في تلك اللحظات العجيبة حقا صعد المحافظ الوطني إلى المنصة، وألقى كلمة غاضبة اتهمني فيها جهرا بخيانة مبادئ ثورة نوفمبر وحذرني من النقد الذي وجهته لجبهة التحرير الوطني، وبعدئذ أوقفت فعاليات المهرجان وخرج الجمهور إلى الساحة المجاورة للقاعة وهنا نصحني أحد الزملاء بمغادرة بسكرة، فورا لأن الأمر أصبح صعبا ومعقدا جدا. وبالفعل عملت بالنصيحة واستأجرت سيارة وغادرت باتجاه منزلي بمدينة الأخضرية بولاية البويرة.
بعد ساعات من السفر المضني والقلق وصلت إلى بيتي فأخبرتني العائلة بأن الأمن قد جاء إلى البيت وفتشه شبرا شبرا ومن ثمة ترك لي استدعاء للتحقيق معي. هنا فهمت بأن المسألة قد أخذت بعدا سياسيا وأمنيا خطيرا. قررت بسرعة أن لا أمتثل للاستدعاء وبسرعة غادرت البيت وتوجهت إلى الجزائر العاصمة لأعالج الأمر هناك في اتحاد الكتاب. عند وصولي إلى مقر الاتحاد وجدت هناك السيدة "سعيدة" والسيدة "جميلة" اللتين كانتا تعملان كسكرتيرتين بالاتحاد، علما أن السيدة جميلة كانت من قبل سكرتيرة للعقيد يحياوي عندما كان مسؤولا على حزب جبهة التحرير الوطني. أخبرتني السكرتيرتان بأن ضابطا من وزارة الدفاع إلى الاتحاد وترك لي استدعاء وسلمتاه لي وبسرعة اتصلت بالأمين العام للإتحاد الدكتور"العربي الزبيري" وأخبرته بالأمر وقال لي بالحرف الواحد: حسنا فعلت أنك أعلمتني، وبعدئذ فهمت بأنه كان على علم بكل ما حدث في بسكرة وأنه شخصيا ذهب إلى هناك بعد مغادرتي أنا لحضور اجتماع مجلس التنسيق الولائي بخصوص حادثة القصيدة. قرأ الاستدعاء الذي نص على ضرورة أن أصطحب معي وثائقي الرسمية "بطاقة التعريف وجواز السفر".. توجهت في اليوم التالي إلى مقر وزارة الدفاع وأحلت إلى مكتب وجدت فيه ثلاثة ضباط بانتظاري وشرعوا في إجراء التحقيق معي. سألوني أسئلة كثيرة من بينها عن مدى انتمائي لأحزاب سرية مثل "الباكس" (الحزب الشيوعي) والحركة البربرية وغيرها من الأسئلة المريبة، وكانوا يسجلون تصريحاتي بالكامل، وفي النهاية كتبوا تقريرا وفي خاتمته فقرة تحملني المسؤولية وتطلب مني الاعتذار وعدم العودة إلى ممارسة الشعر النقدي. سلموا لي التقرير لأقرأه وأوقعه. عندما اطلعت عليه رفضت التوقيع وقلت لهم: "ألشاعر حر في كتابة ما يشاء وما تفعلونه معي يذكرني بمراكز تحقيقات الاستعمار الفرنسي للجزائر. رأيت الغضب يندلع في عيونهم ولكنهم تظاهروا بالهدوء. حينما تحققوا من إصراري على عدم التوقيع أعطوني فترة راحة لأفكر ولكي أغير موقفي كما قالوا حرفيا ثم خرجوا من المكتب وبقيت وحدي. في تلك اللحظة دخل عامل ومعه كأس شاي وناولني إياه ثم خرج فورا، لكنني لم أشربه خوفا من أن يكون فيه شيء ما. بعد مدة قصيرة عاد الضباط الثلاثة إلى الغرفة وقالوا لي بأن توقيعي أمر يتعلق بالمحافظة على مستقبلي. رفضت مرة أخرى التوقيع وهنا اشتطوا غضبا وطلبوا مني رسميا تسليم وثائقي الرسمية لهم، ففعلت، وبعدئذ قدموا ورقة رسمية طلبوا فيها مني أن أتوجه كل صباح لأوقع كي أسجل حضوري لدى مركز الأمن المحاذي لمقر ولاية الجزائر العاصمة. خرجت من وزارة الدفاع وبدأت رحلة التوقيع لدى مصالح الأمن لشهور طويلة، وخلالها حولت نسخة من ملفي إلى اللجنة المركزية للحزب ليتكفل به العقيد "مصطفى بن عودة" عضو الأمانة الدائمة للجنة المركزية ومسؤول لجنة الانضباط فيها في ذلك الوقت. هكذا أصبحت مشكلتي من اختصاص مثلث الحزب ومصالح الأمن وزارة الدفاع معا، وبذلك بدأت رحلة المتاعب. توجهت إلى البريد المركزي وأرسلت برقية إلى الرئيس الشاذلي بن جديد باللغة الفرنسية لأن البريد كان يرفض إذاك كتابة البرقيات باللغة العربية. في تلك البرقية، التي ما أزال أحتفظ بنسخة منها مع نسخ استدعاءات وزارة الدفاع ومصالح الأمن، رويت تفاصيل المضايقات ولكن لم أحصل على جواب منه أبدا. في الوقت الذي مست وأهدرت فيه حرية التعبير لم يأخذ اتحاد الكتاب الجزائريين موقفا رسميا وبوضوح، ولم يفعل ذلك، أيضا، الكتاب والأدباء الجزائريون أفرادا أو جماعات رغم معرفتهم وسماعهم بما حدث لي. وهكذا تركت وحيدا لأواجه مصيري.
أوقفتني نسوة القرية قرب النبع، كان الفجر عنقود عسل
ويمامات قبل.
بغتة غنّين لي: فلتقترب أيها المدن عشب السرة الولهى وصفصاف الجسد
و كواليس قصور الحكم في الحزب والدولة، عد نحو البلد
والمدى الممتد حداء في انحناءات الأبد
قل وداعا، إن غرناطة روحي في ملفات المقاول
قل وداعا، إن غرناطة في مبنى الدرك
هكذا ضاعت بلادي
أيها الحزب الوحيد.
أيها الحزب الوحيد
أدرك الشيب الصغار
أيها الحزب الوحيد
غزت النار الديار
أيها الجالس كالفقر علينا
أيها الواحد كالقفر فإنّا
نرفض النزهة في السجن والإنجاب في المنفى
أيها الحزب المحجر
إننا نطلب شيئا واحدا منك: تجدد، أو تبدد، أو تعدد
فأنا القائل لا واحد إلا الشعب والباقي زبد
آه يا أطفال البلد
البسوا أحلامنا الحافيه
ثم صيحوا: يسقط القيد وظل الطاغيه
هنا دوت القاعة بالتصفيق، ثم واصلت قراءة المقاطع الأخرى تحت وابل من طلب الجمهور أن أعيد المقاطع الأولى وفعلت وأنا في حالة من التوتر والانفعال والفرح المغلف بقفطان الحزن. كنت ألقي وأتماهى روحيا مع أسراب الكلمات ومع جدائل الفواصل وكأن القصيدة لحظة ميلاد إنسان جديد بدأ يخرج من رحم أمه ويصيح صيحته البكر ليعانق أرض مليون ونصف المليون شهيد وشهيدة.
نزلت من المنصة ورأيت القاعة مغمورة بالهرج والمرج وكأن شيئا ما غريبا قد حدث. في تلك اللحظات العجيبة حقا صعد المحافظ الوطني إلى المنصة، وألقى كلمة غاضبة اتهمني فيها جهرا بخيانة مبادئ ثورة نوفمبر وحذرني من النقد الذي وجهته لجبهة التحرير الوطني، وبعدئذ أوقفت فعاليات المهرجان وخرج الجمهور إلى الساحة المجاورة للقاعة وهنا نصحني أحد الزملاء بمغادرة بسكرة، فورا لأن الأمر أصبح صعبا ومعقدا جدا. وبالفعل عملت بالنصيحة واستأجرت سيارة وغادرت باتجاه منزلي بمدينة الأخضرية بولاية البويرة.
بعد ساعات من السفر المضني والقلق وصلت إلى بيتي فأخبرتني العائلة بأن الأمن قد جاء إلى البيت وفتشه شبرا شبرا ومن ثمة ترك لي استدعاء للتحقيق معي. هنا فهمت بأن المسألة قد أخذت بعدا سياسيا وأمنيا خطيرا. قررت بسرعة أن لا أمتثل للاستدعاء وبسرعة غادرت البيت وتوجهت إلى الجزائر العاصمة لأعالج الأمر هناك في اتحاد الكتاب. عند وصولي إلى مقر الاتحاد وجدت هناك السيدة "سعيدة" والسيدة "جميلة" اللتين كانتا تعملان كسكرتيرتين بالاتحاد، علما أن السيدة جميلة كانت من قبل سكرتيرة للعقيد يحياوي عندما كان مسؤولا على حزب جبهة التحرير الوطني. أخبرتني السكرتيرتان بأن ضابطا من وزارة الدفاع إلى الاتحاد وترك لي استدعاء وسلمتاه لي وبسرعة اتصلت بالأمين العام للإتحاد الدكتور"العربي الزبيري" وأخبرته بالأمر وقال لي بالحرف الواحد: حسنا فعلت أنك أعلمتني، وبعدئذ فهمت بأنه كان على علم بكل ما حدث في بسكرة وأنه شخصيا ذهب إلى هناك بعد مغادرتي أنا لحضور اجتماع مجلس التنسيق الولائي بخصوص حادثة القصيدة. قرأ الاستدعاء الذي نص على ضرورة أن أصطحب معي وثائقي الرسمية "بطاقة التعريف وجواز السفر".. توجهت في اليوم التالي إلى مقر وزارة الدفاع وأحلت إلى مكتب وجدت فيه ثلاثة ضباط بانتظاري وشرعوا في إجراء التحقيق معي. سألوني أسئلة كثيرة من بينها عن مدى انتمائي لأحزاب سرية مثل "الباكس" (الحزب الشيوعي) والحركة البربرية وغيرها من الأسئلة المريبة، وكانوا يسجلون تصريحاتي بالكامل، وفي النهاية كتبوا تقريرا وفي خاتمته فقرة تحملني المسؤولية وتطلب مني الاعتذار وعدم العودة إلى ممارسة الشعر النقدي. سلموا لي التقرير لأقرأه وأوقعه. عندما اطلعت عليه رفضت التوقيع وقلت لهم: "ألشاعر حر في كتابة ما يشاء وما تفعلونه معي يذكرني بمراكز تحقيقات الاستعمار الفرنسي للجزائر. رأيت الغضب يندلع في عيونهم ولكنهم تظاهروا بالهدوء. حينما تحققوا من إصراري على عدم التوقيع أعطوني فترة راحة لأفكر ولكي أغير موقفي كما قالوا حرفيا ثم خرجوا من المكتب وبقيت وحدي. في تلك اللحظة دخل عامل ومعه كأس شاي وناولني إياه ثم خرج فورا، لكنني لم أشربه خوفا من أن يكون فيه شيء ما. بعد مدة قصيرة عاد الضباط الثلاثة إلى الغرفة وقالوا لي بأن توقيعي أمر يتعلق بالمحافظة على مستقبلي. رفضت مرة أخرى التوقيع وهنا اشتطوا غضبا وطلبوا مني رسميا تسليم وثائقي الرسمية لهم، ففعلت، وبعدئذ قدموا ورقة رسمية طلبوا فيها مني أن أتوجه كل صباح لأوقع كي أسجل حضوري لدى مركز الأمن المحاذي لمقر ولاية الجزائر العاصمة. خرجت من وزارة الدفاع وبدأت رحلة التوقيع لدى مصالح الأمن لشهور طويلة، وخلالها حولت نسخة من ملفي إلى اللجنة المركزية للحزب ليتكفل به العقيد "مصطفى بن عودة" عضو الأمانة الدائمة للجنة المركزية ومسؤول لجنة الانضباط فيها في ذلك الوقت. هكذا أصبحت مشكلتي من اختصاص مثلث الحزب ومصالح الأمن وزارة الدفاع معا، وبذلك بدأت رحلة المتاعب. توجهت إلى البريد المركزي وأرسلت برقية إلى الرئيس الشاذلي بن جديد باللغة الفرنسية لأن البريد كان يرفض إذاك كتابة البرقيات باللغة العربية. في تلك البرقية، التي ما أزال أحتفظ بنسخة منها مع نسخ استدعاءات وزارة الدفاع ومصالح الأمن، رويت تفاصيل المضايقات ولكن لم أحصل على جواب منه أبدا. في الوقت الذي مست وأهدرت فيه حرية التعبير لم يأخذ اتحاد الكتاب الجزائريين موقفا رسميا وبوضوح، ولم يفعل ذلك، أيضا، الكتاب والأدباء الجزائريون أفرادا أو جماعات رغم معرفتهم وسماعهم بما حدث لي. وهكذا تركت وحيدا لأواجه مصيري.
تعليقات
إرسال تعليق