تستعد الجزائر للاحتفال بالذكرى الخمسين لاسترجاع السيادة
الوطنية، لكن الجزائريين لم يشعروا فعلا بأنهم يعيشون في بلد ديمقراطي يرجع فيه
الحكم للشعب، بلد يسمح فيه النظام السياسي بتحرير الطاقات الاجتماعية المبدعة، بلد
فيه ديمقراطية حقيقية تسمح فيه السلطة السياسية بنشاط ووجود المنابر الثقافية و
الفكرية الحرة المعبرة عن مختلف الحساسيات و الاتجاهات و القوى النشطة.إن
الجزائريين منذ اثنين وستين يتطلعون إلى
بناء جزائر قوية لا تزول بزوال الرجال، جزائر المؤسسات الدستورية لا شرعية
فيها سوى شرعية الشعب، جزائر ديمقراطية شعبية فيها الفصل بين السلطة التشريعية و
التنفيذية والقضائية، لكن هذا المطلب لم يتحقق بعد أكثر من أربعة عقود من الزمن،
فهل سيرى مطلب الشعب النور بعد هبوب رياح التغيير على الوطن العربي؟، وهل سنشهد
انتقالا تاريخيا في الجزائر من النظام الشمولي غير الديمقراطي إلى الدولة
الحديثة؟، هل سننتقل من الجمهورية الأولى إلى الثانية فننتقل من المستحيل إلى
الممكن؟.
إن الجزائر منذ أكثر من أربعين سنة يحكمها مجموعة من الأشخاص
لا يمثلون غالبية المجتمع بكل تأكيد، إنما يستخدمون شعار الشرعية الثورية باسم
الديمقراطية ليهيمنوا على الشعب و يحكموه، لقد اختار هؤلاء النهج الاشتراكي للوصول
إلى الحكم عن طريق الانقلاب العسكري، لقد كانوا أكثر وعيا بالمرحلة و استغلوا سخط
الشعب الجزائري على الإستدمار الفرنسي بصفته رمزا للإمبريالية لينقضوا على الطبقة
البرجوازية التقليدية الكبرى، مثلما انقلبوا على إرادة الشعب ليؤسسوا لبيروقراطية
ثورية، لقد أكد صانعوا القرار في ذلك الوقت على الصلة الجدلية الوثيقة بين الطبيعة
الشعبية للنضال التحريري ضد الاستعمار و الطابع الاشتراكي للمجتمع الجديد، لقد
قالوا بأن بناء الاشتراكية يتماشى مع ازدهار القيم الإسلامية التي تشكل أحد
العناصر الأساسية المكونة لشخصية الشعب الجزائري، وبعد ذلك اختاروا الأداة
الديمقراطية للعمل السياسي في الجزائر إنه الحزب الوحيد الأوحد : حزب جبهة التحرير
الوطني الذي قالوا عنه بأنه يشكل دليل الثورة و القوة المسيرة للمجتمع .. وما
أروعك يا ديمقراطية الحزب الواحد و النظام الشمولي؟!!... حتى بعد خروج الجزائر من
أزمتها الأمنية بعد العام ألفين ظهر ما يشبه الحزب الواحد لتقاسم الريع السياسي و
الاقتصادي وغيره، إنه التحالف الرئاسي الذي لم يخلق مثله في العالم أجمع، إنها
البدعة السياسية في جزائر القرن الحادي و العشرين، حيث اجتمعت ثلاثة أحزاب سياسية
( حزب التجمع الوطني الديمقراطي، حزب جبهة التحرير الوطني، وحزب حركة مجتمع السلم
) لتنفيذ برنامج رئيس الجمهورية، لتزيح الستار عن آخر إبداعات الديمقراطية
الجزائرية التي استطاعت التنازل عن برامجها (هذا إذا كانت لديها برامج حقيقية )
لصالح مباركة برنامج فخامته، و تحيا الديمقراطية الجزائرية الجديدة؟!!...
بعد كل الممارسات غير الديمقراطية للنخب الحاكمة في الجزائر
طيلة أكثر من أربعين سنة ، ماذا كانت النتيجة؟، معضلة جزائرية و أزمة عميقة على
مختلف المستويات، أزمة ديمقراطية هددت البناء الوطني و التماسك الاجتماعي حيث
تراجعت الثقة بين الحاكم و المحكوم، انتشر
الفساد و تحكم المال و المحسوبية وروح النفاق، اقتصاد منهار و جبهة اجتماعية
مشتعلة، تعليم كارثي، نظام صحي بائد، لا سياسة خارجية، لا عمق إقليمي ، انسداد
سياسي و اجتماعي وبوادر ثورة شعبية للمطالبة بالتنمية الحقيقية بعيدا عن الشعارات
الرنانة، مطالب ضاغطة باتجاه تجاوز حالة الاغتراب نحو استرجاع الهوية ومحاولة
الخروج من حالة التخلف بعد إقامة النظام الجديد.إن حصول الوعي لدى الجماهير
بازدياد الهوة بين الواقع المعيش و المستقبل يدفع نحو التغيير الشامل، الجذري و
العميق.إن الثورة ليست حتمية و لكنها مصيرية، تتجاوز كل المخططات لتسقط كل الحواجز
بما في ذلك الحواجز التاريخية. إن ما يجعل ثورة التغيير ممكنة في الجزائر هو تراكم
مختلف التجارب الفاشلة والخاطئة لنفس الجيل ( بعض من جيل الثورة ) أمام ناظري
جيلين كاملين، إن المشاهدات التي سجلها جيلي ما بعد استرجاع السيادة يجعل الشعب
الجزائري الذي يتكون معظمه من الشباب يطالب في أقرب وقت و بكل الوسائل الممكنة
برحيل هؤلاء الفاشلين الذين قادوا الجزائر إلى خراب اقتصادي، سياسي، اجتماعي و
ثقافي، مثلما قادوا الشعب الجزائري إلى ما يشبه الحرب الأهلية بالقوة لمدة تزيد عن
العشر سنوات بدعوى فرض النظام العام و إحلال الأمن، لكن السؤال المطروح: من
المتسبب في تلك الأوضاع ؟،هل الشعب الجزائري هو الذي قاد إلى الفوضى؟، من نحاسب
المواطن البسيط أم المسؤول عن سياسة الشعب؟، المهم في كل هذا أن التغيير المنشود
قريب جدا، وحلم الجمهورية الجزائرية الثانية انتقل من المستحيل إلى الممكن.
*نشر بصحيفة القدس العربي. العدد: 7037. 31
جانفي 2012
تعليقات
إرسال تعليق