/ عمر أزراج.. قصّة قصيدة 31

القائمة الرئيسية

الصفحات


المليكشي في بلاد الأنجلو ـ ساكسون

الشّاعر الكبير عمر أزراج


دامت الرحلة من الجزائر إلى مطار "هيثرو" اللندني  ساعة ونصف تقريبا. عندما بدأت الطائرة تنزل أحسست بأن فصلا من حياتي الماضية سوف يرتبط بفصل جديد من حياتي الجديدة. ففي بريطانيا تعلمت بأن الهوية لا يمكن أن تكون مجموعة من الجزر المتشظية، بل فإنها مشكلة من شتى منعرجات الحياة التي  يمر بها الإنسان. فالذين يخترعون الهويات المفصولة عن التاريخ ربما هم السعداء، ولكن هؤلاء لا يقدرون أن يفهموا أنفسهم لأن فهم النفس مشروط بسلال التجارب التي كونتها وما تزال تواصل عملية تكوينها على نوع مفتوح دائما. خرجت من الطائرة وتوجهت إلى الجمارك، وقال لي الشرطي الذي ناولته جواز سفري:"كم سوف تبقى في المملكة المتحدة؟"، فأجبته بإنجليزيتي "الفلاًحة" إذ ذاك بأنني سوف أبقى فيها قرنا. ضحك قليلا وقال لي بأن ذلك يعني أنني سأموت هناك، ثم داعبته قائلا إن شجر الزيتون الذي هو اسمي "أزراج" يعني الزيتون الكبير لا يموت بسهولة حتى في أشد المحن وأقسى البرودة. قبل أن يسلمني جواز سفري أضاف قائلا: "أنت جئت إذًا من بلاد بومدين"، فأشرت له بنعم ثم مضيت باتجاه المترو، وبعد مدة قصيرة وجدت نفسي في مركز لندن، وتحديدا في محطة "تقاطع الملوك) " كينغز كروس) ثم استأجرت غرفة في الفندق هناك، وبعد تخلصي من أغراضي خرجت أطوف عبر المدينة طولا وعرضا لأكتشف عوالمها العليا والسفلى، وهي عادة من عاداتي حينما أكون في أي بلد غريب لأول مرة. بدت لي لندن مدينة رائعة بمعمارها "الفيكتوري" و"الإدواردي" المتناغم مع خامات الهندسة الحديثة للبنايات العالية جدا. أعجبت بالتكرار الهندسي للبنايات القديمة، خاصة وهو التكرار الذي يكون في شكل متوالية موسيقية تنمو إيقاعاتها رويدا رويدا فتثير في النفس الإحساس بالجمال مرة وبالمتسامي مرة أخرى.

قد ذكرني هذا بتكرار الأعمدة والأقواس في العمارات الإسلامية التي تولد بذلك الإحساس باللانهائي والإيقاع الموسيقي المكتنز، والذي ينثر الدفء في الروح والعقل. عدت إلى الفندق متأخرا جدا ونمت قليلا وفي الصباح الباكر نهضت على هدير القطارات وضجيج الناس. بعد الفطور توجهت إلى مقر مجلة "الدستور"،
ووجدت رئيس تحريرها، الناقد السوري خلدون الشمعة، ينتظرني هناك. بعد دخولي إلى بهو المقر وجدت كل الإداريين من أصل إنجليزي، أما الصحفيين فقد كانوا كلهم عربا من الشرق الأوسط. عين لي السيد خلدون الشمعة مكتبي وأخبرني بضرورة الذهاب مع رئيس القسم الرياضي السيد عماد المناصفي إلى كلية تعليم اللغة الإنجليزية لأسجل فيها كطالب، مما يضمن لي الحصول على الإقامة من طرف وزارة الداخلية البريطانية. وبسرعة فهمت أن هذا الرجل لم يقرر بعد توظيفي كصحفي بصفة نهائية وأن هذا يعني أنني سأشتغل مع المجلة كمتعاون فقط. سجلت في الكلية، وأرسل مديرها جواز سفري إلى وزارة الداخلية، وأصبحت منذ ذلك الوقت طالبا متفرغا للدراسة وصحفيًا يكتب مقالين أسبوعيا دون أن يستدعي ذلك حضوري الدائم في مقر المجلة. بعد أيام أدركت أن عددا من المتعاونين من بعيد هم من كبار الكتاب والأدباء، منهم حسبما أذكر المفكر مطاع صفدي والشاعر عبد الوهاب البياتي، والأديب القاص الكبير زكريا ثامر والناقد الأكاديمي الدكتور علي شلش وغيرهم كثير. ناداني السيد "الشمعة" إلى مكتبه وقال لي:"إنه يمكنك أن تنفرد بكتابة زاوية أسبوعية مرفقة بصورتك". سعدت لهذا التثمين من ناقد كبير تفاعلت مع كتاباته لسنوات طويلة، وأكن له الكثير من الإعجاب والتقدير. هكذا بدأتُ في كتابة زاوية من ألف كلمة تحت عنوان دائم "بلا أقنعة" التي استمرت ست سنوات حتى إغلاق المجلة المذكورة. إلى جانب هذا فقد أسندت إليّ مهمة الكتابة حول القضايا الجزائرية، حيث بدأت بسلسلة من المقالات النقدية والصريحة على مدى ثلاثة أشهر، وكلها مكرسة للشأن الجزائري، وقد جمعت هذه المقالات وطبعتها في كتاب يحمل عنوان "منازل من خزف" بدار رياض الريس بلبنان، ثم واصلت الكتابة حول تفاصيل الحياة الجزائرية، فنشرت ثلاثين حلقة أسبوعيا على مدى أشهر وجمعتها تحت عنوان "الجذور والريح"، وهي عبارة عن سيرة ثقافية اجتماعية وسياسية لبلادي الجزائر، من خلال منظور المنطقة التي ولدت فيها وهي "أثمليكش". في الشهور الأولى من عملي في المجلة نشرت أيضا رواية "فتح الأندلس" في ثماني حلقات، وهي لرشيد بوجدرة، وكنت بذلك قد وفيّت بوعدي الذي قطعته له. لقد نالت هذه الرواية إعجاب القراء في المشرق العربي، وتلقينا في المجلة رسائل كثيرة تنوّه بها. أذكر أيضا أن رسالة وصلتني من الجزائر من السيد "آيت العربي مقران"، وفهمت منها أنه أرسلها عن طريق أخيه لأنه كان مسجونا بسبب دفاعه عن حق الأمازيغية أن تكون لغة معترفا بها. لقد وردت، في هذه الرسالة التي أحتفظ بها، عبارة ملفتة للنظر وهي:"إن الشاعر العربي يكتب قصيدتين اثنتين في حياته فقط: واحدة في مدح الملك وأخرى في طلب عفوه". بطبيعة الحال ليس كل الشعراء هكذا إذ هنالك من يكتب الشعر ضد الملك ولا ينتظر عفوه أبدا.
لقد فهمت من مضمون الرسالة أن صاحبها قد رمي في زنزانة ملوّثة بالعفن. شعرت بالألم وكان هناك بجانبي صحفي تونسي يعمل معنا في "الدستور" واسمه "كمال السماري"، الذي كان في نفس الوقت ناطقا رسميا لمنظمة العفو الدولية "أمنستي" بمقرها الرسمي بلندن. دخلت إلى مكتبه وجعلته يقرأ رسالة "آيت العربي" المحزنة جدا، وأقنعته أن يتكفل بالأمر. وبالفعل فقد نشر في نشرية "أمنستي" خبر سجن "آيت العربي"، ووضع قضيته ضمن أجندة هذه المنظمة الدولية دفاعا عن حريته وعن حق اللغة الأمازيغية الشرعي في الوجود. أذكر أن السيد سعيد حموش الذي كان مدير مكتب وكالة الأنباء الجزائرية بلندن حاول أن يبعد عني الجزائريين، ويقول لهم إنني معارض وأن الجلوس معي سيعرضهم للشبهات السياسية. وقد حدث هذا في الفترة التي بدأ الطلاب والطالبات الجزائريين والجزائريات يزورونني في مكتبي منهم حسن زيتوني الذي صار صحافيا فيما بعد في تلفزيون الـ"أم بي سي" السعودي وسن بهلول الذي كان يُحضِر شهادة ماجستير فلسفة بجامعة "سيتي" بلندن وطالبة وهرانية الأصل نسيت اسمها. إن هذه الطالبة زارتني لتستشيرني بخصوص موضوع أطروحتها عن "تأثيرات القمر الصناعي العربي في الإعلام العربي". أذكر أنني قلت لها بجدية بأننا تلقينا خبرا بأن هذا القمر العربي قد ضاع فعلا في الفضاء الكوني ولم يعد له وجود ثم نصحتها مازحا أن تكتب مرثية عن ضياعه. في إحدى الأيام زارني طالب آخر أتحفظ على ذكر اسمه، وقال لي بأن المسؤولين بالسفارة والقنصلية الجزائرية بلندن لا يصرفون لهم المنح شهريا وفقا للقانون، وإنما يعطون لهم أجزاءً بسيطة منها بشكل غير منتظم، الأمر الذي جعلهم في حالة مزرية. لقد أخبرني هذا السيد بأن المبلغ العام للمنح ومستحقات الجامعات الخاصة بهم يضعها المسؤولون الجزائريون في حسابات الإدخار بالبنوك الأجنبية لكي "تبيّض" الفوائد لتذهب إلى جيوبهم، وكان هذا هو السبب في تأخير دفع منحهم في الوقت القانوني. جمعت المعلومات بخصوص هذا وكتبت مقالا كشفت فيه هذه الألاعيب التي ما تزال تمارس بطرق مختلفة في بلادنا. التقيت في إحدى المرات بلندن بجزائري كان ممثلا في المسرح الوطني وخريج معهد برج الكيفان، وكان يعمل في فندق كبير وراقٍ بوسط العاصمة البريطانية. بعد تعمق التعارف والصداقة بيننا أخبرني أيضا أن عددا من الغرف في ذلك الفندق يؤجرها المسؤولون الجزائريون على مدار السنة بأموال الشعب الجزائري، وأسرّ لي بأنهم نادرا ما يأتون ليناموا فيها ثم أَوْضحَ لي أن تلك الغرف كانت تؤجر في أيام غيابهم، وتقسم أموال الإيجار بينهم وبين مالك الفندق في سرية تامة. كتبت أيضا عن هذا الموضوع وتعجبت أن الاستهتار بأموال الشعب الجزائري لا يتم في داخل الوطن فقط، وإنما يتم أيضا في العواصم الأجنبية، وخاصة في عواصم العملة الصعبة. هكذا بقيت في الدستور ست سنوات، ومارست خلالها نقد المظالم في الجزائر، وحاربت إيديولوجية الحزب الواحد وممارسات قمع الحريات ومصادرة الرأي المخالف والمختلف. هكذا صنفت مجددا كمعارض علما أنني لم أعارض الوطن أبدا وإنما عارضت وما أزال أعارض أولئك الذين فقدوا الوطنية وصار الوطن عندهم مختزلا في المناصب والأموال بدون حق.

هل أعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع