![]() |
عمر أزراج |
الخيارات الصّعبة
بعد مرور عامين على إقامتي ببريطانيا منذ 1986 إلى 1988 بدأت الأحداث في الجزائر تأخذ مسارا مختلفا حيث بدأت المظاهرات تنفجر في كل أنحاء البلاد، وكان الطلب الأساسي للشعب الغاضب هو الحرية والتعددية الحزبية والديمقراطية. تابعت هذه الأحداث من موقعي كصحفي وكأديب بكثير من السعادة والألم في آن واحد. كنت سعيدا لأن الشعب الجزائري قد قال كلمته وأراد أن يكسر القيود ليعيش حرا، ولكي يبني مستقبله الزاهر، كما أنني كنت متألما للضحايا الذين سقطوا وللذين تعرضوا سواء للاعتقال أو للضرب. شرعت في كتابة المقالات ونشرها على صفحات الدستور مباركا حركة التغيير وداعيا إلى الانتقال إلى الديمقراطية بدون إراقة الدماء.
في هذه الفترة كنت أتابع كل صغيرة وكبيرة تحدث في الجزائر وما ينشر عنها في الصحافة العربية أو الصحافة الغربية. بعدما تشكلت الأحزاب بدا واضحا أن التيار الإسلامي هو المهيمن على الساحات وعلى الخطاب السياسي بأكمله نتيجة لإفلاس النظام الحاكم إذ ذاك وفقدانه للمصداقية في الشارع الجزائري الذي مل من وعوده البراقة دون أن يتحقق شيء ملموس على مستوى تحديث المجتمع ماديا وثقافيا وفكريا وأخلاقيا.
وفي سنة 1990 أغلقت مجلة "الدستور" مكاتبها بسبب دخول نظام صدام حسين إلى الكويت عسكريا في سابقة خطيرة في مشهد النظام العربي. كان العراق السوق الرئيسي لمجلة الدستور إلى جانب السودان وتونس، ولم تتمكن من تعويض فقدان هذا السوق. وهكذا وجدت نفسي فجأة بدون عمل. صبرت مدة ستة أشهر ورفضت عرضا من جريدة "الشرق الأوسط"، وعرضا مغريا من جريدة "صوت الكويت" وكلاهما كانتا تصدران من لندن. كان رفضي مؤسسا على أنني لا يمكن أن أشتغل في هاتين الصحيفتين اللتين تحولتا إلى بوقين للغرب يدعوان جهرا إلى تدمير العراق ويسوغان الإعداد لدخول القوات الأمريكية إلى منطقة الخليج لشن حرب باسم تحرير الكويت.
في الحقيقة كنت ضد اجتياح النظام العراقي لهذا البلد الصغير، وكنت أؤمن من حيث المبدأ بأن الوحدة بين أي بلد وآخر لا ينبغي أن تفرض بالقوة بل يجب أن يزكيها الشعب ويقوم هو بتحقيقها. ولكن مقابلة اجتياح العراق بدعوة "المارينز" الأمريكي والقوات الأوروبية المستعمرة سابقا لتحرير الكويت كان رؤية سياسية خاطئة وتطبيقا تعسفيا، لذلك قررت عدم الانتماء لأي منبر إعلامي ينبطح غربيا. في أحد الأيام زارني ببيتي بشمال لندن الناقد والأكاديمي المصري المعروف الدكتور علي شلش برفقة زوجته الأمريكية وأخبرني بأنه هو الذي اقترحني لدى السيد محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة "العربي" الكويتية سابقا والمدير العام في ذلك الوقت لجريدة "صوت الكويت" اللندنية. أعلمت الدكتور شلش في تلك الجلسة بأن السيد الرميحي قد كلف الشاعر والإعلامي السوري الدكتور محيي الدين اللاذقاني الذي كان رئيس القسم الثقافي بالجريدة نفسها وعرض علي العرض ولكنني رفضته بصراحة أمام نقيب المعلمين اللبنانيين الشاعر أنطوان رعد. هز الصديق الدكتور شلش رأسه وقال لي بأنه يحترم خياراتي ومواقفي.
بعد ستة أشهر من البطالة اتصلت بالصديق عبد الباري عطوان صاحب جريدة "القدس العربي" اللندنية في مكتبه لأطلب عملا، ولكنني وجدته غائبا وأجابني عوضا عنه الشاعر الأردني أمجد ناصر الذي كان رئيسا للقسم الثقافي بها وصارحني بأنه لا توجد الإمكانية في الوقت الحاضر، غير أنه اقترح علي أن أتوجه إلى جريدة "العرب الدولية" وقلت له بأنني لا أعرف أحدا فيها كما أنني لا أرتبط بأية جريدة موالية للعقيد القذافي.
شرح لي الشاعر أمجد ناصر بأن جريدة العرب مستقلة عن نظام القذافي، وعندئذ أبديت له الموافقة الأولية. بعد ساعة من ذلك الاتصال هاتفني الشاعر أمجد وقال لي بأن مدير تحرير جريدة "العرب الدولية" قد وافق على مرادي وأنه بانتظاري للبدء في العمل. تألمت كثيرا بسبب انقطاعي عن الكتابة مدة نصف سنة، لأن ذلك حرمني من متابعة الشأن الجزائري بالنقد والتحليل. بدأت العمل في جريدة العرب الدولية في عام 1990 وبقيت فيها 21 سنة، علما أنها كانت، تاريخيا، أول جريدة يومية عربية تصدر في الغرب من بريطانيا.
كنت مسؤولا على الصفحة السياسية إلى جانب كتابة زاوية سياسية وثقافية "بلا أقنعة" يوميا. في تلك المرحلة كان يساهم في الصفحة التي كنت أشرف عليها الكاتب المصري الشهير محمد حسنين هيكل والروائي المصري فتحي غانم وعدد من الكتاب والإعلاميين المعروفين في الساحة العربية. اندلعت الحرب في العراق بقيادة أمريكا، وكان موقفنا في الجريدة ضد الاستنجاد بالقوات الغربية ومع الحل العربي السياسي لإخراج القوات العراقية من الكويت بطريقة سلمية وعلى نحو لا يمنح المبرر لإعادة الاستعمار الغربي إلى الشرق الأوسط. في ذلك الوقت بالذات بدأت الانتخابات التشريعية في الجزائر، وأسفرت عن فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية بالمرحلة الأولى من تلك الانتخابات. بعد ذلك الفوز مباشرة بدأت الصحافة البريطانية تشن حملات ضد الجزائر وتحذر من الإسلاميين الجزائريين ونشرت مقالات كثيرة تذكر البريطانيين بأن الأندلس سوف تهدد مرة أخرى. بعد مدة تناقلت وسائل الإعلام الدولية إلغاء النظام الجزائري لنتائج الانتخابات، وأذكر أنني كتبت مقالا في صباح اليوم التالي دعوت فيه إلى مراجعة الموقف ومواصلة العملية الانتخابية على أساس معيار احترام التعددية الحزبية والقبول بمن ينتخبه الشعب الجزائري ويكفي الوصاية عليه من طرف أي كان.
قبل تلك الانتخابات التشريعية كان رأيي ألا ترشح جبهة الإنقاذ الإسلامية ممثليها في كل الولايات حتى تفوز فقط بالمرتبة الثانية مما سيسمح لها بالتدريب على إدارة الدولة رويدا رويدا ولكي تتفادى ردود فعل إلغائية من طرف النظام القائم إذاك. إن موقفي المضاد لإلغاء الانتخابات لم يثن عزمي عن كتابة عدد من المقالات النقدية انتقدت فيها الأصولية الإسلامية المتطرفة جنبا إلى جنب نقدي للنظام الحاكم وديكتاتوريته التقليدية. وهكذا فقدت الطرفين معا ولم أندم على ذلك أبدا، وفي أوج الصراع المسلح في الجزائر جاء عدد من الإسلاميين إلى جريدة "العرب" ومعهم قصاصات من المقالات التي كتبتها، فهددوني وقال لي أحدهم: "إذا لم تكف عن نقدنا فنحن قادرون أن نصل إليك حتى إذا كنت داخل قصبة صغيرة".
في هذا الوقت بالذات علمت بأن السفارة الجزائرية كانت ترسل تقارير ضدي إلى المصالح الأمنية في الجزائر. خلال مرحلة الصراع الدموي في الجزائر التقيت في لندن برئيس وزراء الحكومة الجزائرية سابقا السيد عبد الحميد الإبراهيمي الذي اختار اللجوء السياسي في بريطانيا وتعرفت عليه دون أن تتوطد العلاقة بيننا. في أحد الأيام كنت غائبا عن عملي بجريدة العرب وعندما عدت إلى المكتب وجدتها قد نشرت الحلقة الأولى من سلسلة المقالات التي أعلنت عنها وهي بقلم رئيس الوزراء عبد الحميد الإبراهيمي. قرأت الحلقة الأولى المنشورة أثناء غيابي في الصفحة التي كنت أشرف عليها ووجدتها تبرئه من كل التعسف الحاصل في الجزائر في وقته. استغربت الأمر لأنه لو كان حقيقة ديمقراطيا لما قبل منصب الوزير ثم منصب رئيس الحكومة في ظل نظام الحزب الواحد والديكتاتورية. حَدثتُ صاحب جريدة "العرب" الراحل أحمد الصالحين الهوني عن تاريخ هذا الرجل. في اليوم التالي نشرت مقالا أوضحت فيه أن الوزير عبد الحميد الإبراهيمي لم يكن خروفا بين الذئاب وعليه أن يكتب اعترافا بأنه كان جزءا من السلطة التي لفظته ولم يكن في المعارضة إلا بعد أن فقد المنصب في السلطة وشأنه شأن الكثير من دعاة المعارضة في الجزائر وفي البلدان العربية الأخرى الذين لا تستيقظ فيهم "حمامة الديمقراطية" إلا بعد أن يخسروا المنصب الذي كان يحرسه يوما "صقر الديكتاتورية" المعشش بداخلهم
في الحقيقة كنت ضد اجتياح النظام العراقي لهذا البلد الصغير، وكنت أؤمن من حيث المبدأ بأن الوحدة بين أي بلد وآخر لا ينبغي أن تفرض بالقوة بل يجب أن يزكيها الشعب ويقوم هو بتحقيقها. ولكن مقابلة اجتياح العراق بدعوة "المارينز" الأمريكي والقوات الأوروبية المستعمرة سابقا لتحرير الكويت كان رؤية سياسية خاطئة وتطبيقا تعسفيا، لذلك قررت عدم الانتماء لأي منبر إعلامي ينبطح غربيا. في أحد الأيام زارني ببيتي بشمال لندن الناقد والأكاديمي المصري المعروف الدكتور علي شلش برفقة زوجته الأمريكية وأخبرني بأنه هو الذي اقترحني لدى السيد محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة "العربي" الكويتية سابقا والمدير العام في ذلك الوقت لجريدة "صوت الكويت" اللندنية. أعلمت الدكتور شلش في تلك الجلسة بأن السيد الرميحي قد كلف الشاعر والإعلامي السوري الدكتور محيي الدين اللاذقاني الذي كان رئيس القسم الثقافي بالجريدة نفسها وعرض علي العرض ولكنني رفضته بصراحة أمام نقيب المعلمين اللبنانيين الشاعر أنطوان رعد. هز الصديق الدكتور شلش رأسه وقال لي بأنه يحترم خياراتي ومواقفي.
بعد ستة أشهر من البطالة اتصلت بالصديق عبد الباري عطوان صاحب جريدة "القدس العربي" اللندنية في مكتبه لأطلب عملا، ولكنني وجدته غائبا وأجابني عوضا عنه الشاعر الأردني أمجد ناصر الذي كان رئيسا للقسم الثقافي بها وصارحني بأنه لا توجد الإمكانية في الوقت الحاضر، غير أنه اقترح علي أن أتوجه إلى جريدة "العرب الدولية" وقلت له بأنني لا أعرف أحدا فيها كما أنني لا أرتبط بأية جريدة موالية للعقيد القذافي.
شرح لي الشاعر أمجد ناصر بأن جريدة العرب مستقلة عن نظام القذافي، وعندئذ أبديت له الموافقة الأولية. بعد ساعة من ذلك الاتصال هاتفني الشاعر أمجد وقال لي بأن مدير تحرير جريدة "العرب الدولية" قد وافق على مرادي وأنه بانتظاري للبدء في العمل. تألمت كثيرا بسبب انقطاعي عن الكتابة مدة نصف سنة، لأن ذلك حرمني من متابعة الشأن الجزائري بالنقد والتحليل. بدأت العمل في جريدة العرب الدولية في عام 1990 وبقيت فيها 21 سنة، علما أنها كانت، تاريخيا، أول جريدة يومية عربية تصدر في الغرب من بريطانيا.
كنت مسؤولا على الصفحة السياسية إلى جانب كتابة زاوية سياسية وثقافية "بلا أقنعة" يوميا. في تلك المرحلة كان يساهم في الصفحة التي كنت أشرف عليها الكاتب المصري الشهير محمد حسنين هيكل والروائي المصري فتحي غانم وعدد من الكتاب والإعلاميين المعروفين في الساحة العربية. اندلعت الحرب في العراق بقيادة أمريكا، وكان موقفنا في الجريدة ضد الاستنجاد بالقوات الغربية ومع الحل العربي السياسي لإخراج القوات العراقية من الكويت بطريقة سلمية وعلى نحو لا يمنح المبرر لإعادة الاستعمار الغربي إلى الشرق الأوسط. في ذلك الوقت بالذات بدأت الانتخابات التشريعية في الجزائر، وأسفرت عن فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية بالمرحلة الأولى من تلك الانتخابات. بعد ذلك الفوز مباشرة بدأت الصحافة البريطانية تشن حملات ضد الجزائر وتحذر من الإسلاميين الجزائريين ونشرت مقالات كثيرة تذكر البريطانيين بأن الأندلس سوف تهدد مرة أخرى. بعد مدة تناقلت وسائل الإعلام الدولية إلغاء النظام الجزائري لنتائج الانتخابات، وأذكر أنني كتبت مقالا في صباح اليوم التالي دعوت فيه إلى مراجعة الموقف ومواصلة العملية الانتخابية على أساس معيار احترام التعددية الحزبية والقبول بمن ينتخبه الشعب الجزائري ويكفي الوصاية عليه من طرف أي كان.
قبل تلك الانتخابات التشريعية كان رأيي ألا ترشح جبهة الإنقاذ الإسلامية ممثليها في كل الولايات حتى تفوز فقط بالمرتبة الثانية مما سيسمح لها بالتدريب على إدارة الدولة رويدا رويدا ولكي تتفادى ردود فعل إلغائية من طرف النظام القائم إذاك. إن موقفي المضاد لإلغاء الانتخابات لم يثن عزمي عن كتابة عدد من المقالات النقدية انتقدت فيها الأصولية الإسلامية المتطرفة جنبا إلى جنب نقدي للنظام الحاكم وديكتاتوريته التقليدية. وهكذا فقدت الطرفين معا ولم أندم على ذلك أبدا، وفي أوج الصراع المسلح في الجزائر جاء عدد من الإسلاميين إلى جريدة "العرب" ومعهم قصاصات من المقالات التي كتبتها، فهددوني وقال لي أحدهم: "إذا لم تكف عن نقدنا فنحن قادرون أن نصل إليك حتى إذا كنت داخل قصبة صغيرة".
في هذا الوقت بالذات علمت بأن السفارة الجزائرية كانت ترسل تقارير ضدي إلى المصالح الأمنية في الجزائر. خلال مرحلة الصراع الدموي في الجزائر التقيت في لندن برئيس وزراء الحكومة الجزائرية سابقا السيد عبد الحميد الإبراهيمي الذي اختار اللجوء السياسي في بريطانيا وتعرفت عليه دون أن تتوطد العلاقة بيننا. في أحد الأيام كنت غائبا عن عملي بجريدة العرب وعندما عدت إلى المكتب وجدتها قد نشرت الحلقة الأولى من سلسلة المقالات التي أعلنت عنها وهي بقلم رئيس الوزراء عبد الحميد الإبراهيمي. قرأت الحلقة الأولى المنشورة أثناء غيابي في الصفحة التي كنت أشرف عليها ووجدتها تبرئه من كل التعسف الحاصل في الجزائر في وقته. استغربت الأمر لأنه لو كان حقيقة ديمقراطيا لما قبل منصب الوزير ثم منصب رئيس الحكومة في ظل نظام الحزب الواحد والديكتاتورية. حَدثتُ صاحب جريدة "العرب" الراحل أحمد الصالحين الهوني عن تاريخ هذا الرجل. في اليوم التالي نشرت مقالا أوضحت فيه أن الوزير عبد الحميد الإبراهيمي لم يكن خروفا بين الذئاب وعليه أن يكتب اعترافا بأنه كان جزءا من السلطة التي لفظته ولم يكن في المعارضة إلا بعد أن فقد المنصب في السلطة وشأنه شأن الكثير من دعاة المعارضة في الجزائر وفي البلدان العربية الأخرى الذين لا تستيقظ فيهم "حمامة الديمقراطية" إلا بعد أن يخسروا المنصب الذي كان يحرسه يوما "صقر الديكتاتورية" المعشش بداخلهم
تعليقات
إرسال تعليق