/ بابا الصّديق: روح العالم وأصل الوجود للكاتب صلاح الدين المرزوقي..

القائمة الرئيسية

الصفحات

بابا الصّديق: روح العالم وأصل الوجود للكاتب صلاح الدين المرزوقي..


الشّاعر و الكاتب: صلاح الدّين المرزوقي
بابا الصّديق: روح العالم وأصل الوجود للكاتب صلاح الدين المرزوقي.. 
نقد الدكتور أ.د. عبد الستار البدراني.
النّص : بابا الصديق / صلاح الدين المرزوقي
« بستان تجمله أوراده، وترسم على وجهه ظلال الدهشة، كما يفعل الكحل، والزوج حين يعصر وجه امرأة حسناء، وينسج خيوطه الزنبقية فتصبح أنثى يعشقها الله. حقل تحرسه سنابله اليوسفية من بطش الريح، وتضيف له مسحة جمالية كعباءة غالية يصغي لها الكبرياء كلما ارتداها ملك. للهلال موعده، و لبابا الصديق موعده، كنا نراه كلما همست السماء في أذن "وادي خراية" وكلّمه المطر، فزار ديارنا وأخرجنا منها، وأطفأ مصباح المدينة ونادى الرّعد بصوت عال: يا شموع تكلّمي فقد حان موعد بابا الصديق. موعد الفرحة والجد والصّمت إنه بابا صديق عين الحجل، ومن دونه لا يكتمل صيفها كامرأة جميلة في عنق رجل قبيح الوجه هش العزيمة رث الثياب أتذكر، كلّما أشرق الصديق بلونه الثلجي وأنفه الطويل، وعيناه ككوكبين لا يزورهما الضوء، وسيجارته البيضاء التي لا تغادر شفتيه الغليظتين، نلتف حوله كبارا وصغارا يلفنا نور الشموع وتدغدغنا أصابع البرد . فيحكي لنا عن الغول الذي أتاه يحبوا، ويقول كم أكره الأطفال، والذين يحبونه، وعن والده الذي اغتاله الاستعمار الفرنسي لأنه كان يهدد وجوده عندنا، وعن عين الحجل حضن الجزائر الذي حمى شرفنا.
وقفت أصوات السّماء، ذاب الرّعد في فم المطر و ابتلع السّحاب برقه، وكسانا الصّمت صمته، وارتكنت خراية إلى زاوية غير بعيدة عنا بعدما سبحنا، فنحن لا نعرف الموج وزرقته. تقدّم بابا الصديق بخطى لا يخطوها إلاّ نبيّ أو عرّاف .
ـ كنا نستمع إليه بآذان ساجدة، وبصوت خافق تسلّل من حنجرته خرج والده العالم البطل الحاج عيسى، كرجلٍ ثلجيّ يحبّه الأطفال وينتظرونه في نفس الوقت ومن نفس اللّسان كي يهديهم أجمل القصص وأجمل اللحظات. ـ أتذكّر هذه اللّحظات كلّما أطلّ علينا هلال بابا الصديق حاملا معه قصة والده الحاج عيسى والعين التي كان يرتوي عندها الحجل .
ـ ما أجمل بابا الصديق والشّموع البيضاء التي كانت تذوب حبّا وهي تستمع إليه، ما أجمل خراية التي كانت تداعب طفولتنا وتغسلها وكأنها كانت تجهّزنا لموعد الرّجل الثلجي وبطولات المدينة .
.. لم يتغير ولم يتأخر شيء، لازلت أنتظر هلاله وأترقب خراية، ساعتها سأخرج وأسبح في قلب الوادي كطفل وحين يفرّ الضوء عبر أسلاكه الشائكة أشتري شمعة وأنتظر… بابا الصديق...».
============================
النّقد ..
بابا الصديق : روحُ العالمِ وأصلُ الوُجود
أ.د. عبد الستار البدراني

" التاريخ لا يُحدّد هويّتنا وإنّما يبدّدها لصالح هويّة أخرى قيد التشكّل" فوكو. يندرج المحكي ( المرزوقي ) نسبة إلى الشّاعر / القاص الجزائري صلاح الدين المرزوقي في ( خانة ) السيرة، فما يبثه الرّاوي عبر متنه يشكل انعكاسا إلى الخارج يعمل بقوة على إضاءة شاهد الشموخ داخل فضاء لساني يرسم فضاء مكانيا، يمكن أن نطلق عليه ( مملكة الحياة/عين الحجل )؟. ينهض النص بدءا على استدعاء شخصية ( بابا الصديق )، الاستدعاء يمثل لعبة زمانية مكانية تعمل على كشف الانعطافات المزدوجة التي تكشف في تعبيريتها حالة إنتاجية لتاريخ إنساني يتجلى في تشييء الإنساني و أنسنة الأشياء ((كنا نراه كلما همست السّماء في أذن “وادي خراية” وكلّمه المطر.)) وفي قوله : ( يلفنا نور الشموع وتدغدغنا أصابع البرد). طاقات تعبيرية تنفتح على أسطرة اللغة قبل أن تجعل من الشّخصية ذاتها بعد أسطوريا.(( للهلال موعده، ولبابا الصديق موعده، كنا نراه كلّما همست السماء في أذن “وادي خراية" وكلّمه المطر، فزار ديارنا وأخرجنا منها، وأطفأ مصباح المدينة ونادى الرّعد بصوت عال.))؟!. أليس هذا التوصيف يرشح ( بابا الصديق ) ليكون أسطورة عين الحجل، ومصدر بثها المعرفي إنّه الرّجل الذي يكلّم المطر (( ولا يكتمل الصّيف بدونه ..!!؟ ))؛ لأنّه حلم الأطفال والبالغين على السّواء، فضلا عن أنه الناقل لتاريخ الصّراع الفرنسي الجزائري استنادا إلى محكيات جده .
تعمل قراءتنا الحالية على توصيف الفاتحة النصية التي تعنى بتشغيل الهامشي لصالح البؤري ( بابا الصديق ) حيث تسمح للقارئ بالكشف عن طبيعة الشخصية المستدعاة، وقدرتها على العطاء بدلالة( بستان/ حقل) ولاسيما حقل السنابل الموصوفة بـ ( اليوسفية ) نسبة إلى يوسف عليه السلام، المسألة التي تدخلنا في توظيف ( تناصي ) يضاعف البث المحمولي للنص. فالمعروف أن( يوسف ) عليه السّلام عاش في عصر الملوك الرعاة، إذ حدث في مصر إبان هذا الحكم أن رأى أحد الملوك رؤيا كانت تمثل ترميزا كبيرا للملك حتى أنه استدعى كل عرّافيه، فما قدروا على تأويلها إلى أن أوّلها يوسف حسب النص القرآني، الذي يهمني من هذا التوصيف هو العلاقة بين بابا الصديق ويوسف الصديق، فهما الاثنان يحكيان واقعا غائبا أنتجته المخيلة الحلمية، إلا أن الأوّل يحقق مصداقيته في التحقق على الأرض، والثاني يحقق مصداقيته في الاعتماد على المرئيات التاريخية، وبناء على شهودها مطعمة بالمخيلة الشعبية (( فيحكي لنا عن الغول الذي أتاه يحبوا، ويقول كم أكره الأطفال، والذين يحبونه، وعن والده الذي اغتاله الاستعمار الفرنسي؛ لأنه كان يهدد وجوده عندنا، وعن عين الحجل حضن الجزائر الذي حمى شرفنا.))، وبالتالي يحقق مصداقيته عند أهل عين الحجل أطفالا ورجالا ونساء. الأمر الذي أنشا رابطا حلميا اجتماعيا مع ( بابا الصديق )، فتشكلت مرآة حضارية للمعرفة الشعبية المحلية والإنسانية:
بابا الصديق = بستان الزهور
=
ظلال الدهشة
=
حقل السنابل اليوسفية
=
موعد الهلال
=
رجل المطر ” يكلم المطر
=
رجل الفصول ( بدونه لايكتمل الصيف)
=
نبيّ أو عرّاف
رجل تتعاضد وتتلازم فيه صفات نسقية تجمع بين عالمي الاعتقاد والسّيرورة التاريخية، والتي تعمل بالضرورة على التوحيد بين تداعيات الذاكرة وآنية البوح ؛ هذان الفعلان يفتحان بوابة واسعة للكشف، ويثيران حساسية التلقي ليس للاحتمال والتوقع ؛ و إنما للتصديق بحقيقة أنّ العالم عتمة يضيئها ( غول في رأس الخرافة وبنية الأعراف؛ غير أن المحكيات توفر الفرصة لمتعة الأماسي ولذتها، وفي الوقت نفسه بناء مثير تخييليّ في فضاء المتقبل ((ـ كنا نستمع إليه بآذان ساجدة، وبصوت خافق تسلل من حنجرته خرج والده العالم البطل الحاج عيسى، كرجل ثلجي يحبه الأطفال وينتظرونه في نفس الوقت ومن نفس اللسان كي يهديهم أجمل القصص وأجمل اللحظات. ـ أتذكر هذه اللحظات كلما أطل علينا هلال بابا الصديق حاملا معه قصة والده الحاج عيسى والعين التي كان يرتوي عندها الحجل)) . .يجعل لحظة الحكي كشفا للأسرار ومفتاحا للإحساس بالوجود و شعريّته المعبأة بالعمق والمجهول، تأسيسا على قول فوكو:التاريخ لا يعني قول ما نحن عليه وما يحدد معالمنا ؛ بل تجديد ما نحن بصدد مغايرته ” .
هذا هو المعبر الذي يضاعف القدرة على استشراف الماوراء بدلالة المتحقق على الأرض، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الذاكرة مرجعية لتعزيز الرؤيا؛ أو على رأي جيرالد إلمان ” إعادة بناء مستمرة ” .
صلاح الدين المرزوقي يستشرف نداءات الذاكرة ويعيد قراءة المخزون المخيالي ليشكل اللحمة اللازمة والضرورية بين الواقعي والمتخيل، إنه كتابة نوعية تسهم إسهاما موفقا في تأصيل الذات الجزائرية، هو الرّؤيا التي تتيح الانفتاح على الدهشة.
هل أعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع