يوسف بعلوج.. على جبينه ثورة و كتابة للزّمن المستقبل
" لو قدّر لطموح الشّباب و حماسه، و صفاء سريرته، و توقُّدِ قريحته، و إيمانه بغده أن يتجسّد في شخص من لحم و دم لكان صاحبُ هذا الكتاب واحدا من المؤهّلين لذلك..."[i]، هكذا قدّم الرّوائي و الشّاعر الجزائري عبد الرّزاق بوكبة لكتاب المدوّن الجزائري الشّهير يوسف بعلوج، الكتاب الموسوم ب: على جبينها ثورة و كتاب.. حوارات تونسية بعد الثورة، هو كتاب جاء في مائتين و أربع و عشرين صفحة عن دار فيسيرا للنّشر العالم ألفين و إحدى عشر. قدّم للكتاب أيضا الرّوائي الليبي محمّد الأصفر فقال عنه:" .. هو كتاب لأديب و رحّالة شاب من الجزائر اسمه يوسف بعلوج"[ii]، كما قال أيضا:" الكتاب يبدأ ككتاب أدب رحلات لكنّ الرّحالة الشّاب يمارس ثقافته المتنوّعة و الثّرية من سياسة و فن تشكيلي و أدب و علم اجتماع و فلسفة و إلكترونيّات و مسرح، و غيرها على كلّ شيء يلتقيه أو يمسّه"[iii]. الكتاب جاء مرتّبا في سبعة أجبُنٍ: جبين الإهداء، التقديم، المقدّمة، السّياسة، التدوين، الكتابة، الفهرس، فهل لهذا التراكم السّباعي معنى ما؟، هل يحمل عنوان الكتاب(على جبينها ثورة و كتاب) شيفرة ما؟، هل هناك لعبة معنى مستترة في كتاب يوسف بعلوج؟.
2.
و أنا أفتح الكتاب لأقرأ من الجُبُنِ وقعت عينيّ على جبين الإهداء حيث يقول الكاتب:"إلى جدّي يوسف الذّي منح الوطن دمه ومنحني اسمه، إلى جدّي جديد و صندوقه الذّي منحني لحظات من الفرح. ترى، كم من طفل سيرث اسمك يا بوعزيزي؟، و كم من صناديق فرح فتحتها بعد سواد طويل؟."[iv] و أنا أقرأ هذا الإهداء استحضرت قصيدة ثورة شمس للشّاعرة العراقية نازك الملائكة إذ قالت:
وقَفَتْ أمام الشّمــس صارخـةً بها == يا شمسُ، مثلُكِ قلبيَ المتمــــرِّدُ
قلبي الذي جَرَفَ الحياةَ شبابُــــــهُ == وَسقَى النجـــومَ ضياؤه المتجدِّدُ
مهلاً ، ولا يخـدعْكِ حـزنٌ جائــــــرٌ== في مقلتيَّ ، ودمعـــــةٌ تتنّهــــــدُ
فالحزنُ صورةُ ثورتـي وتمـرُّدي == تحت اللّيالي ؛ و الألوهةُ تَشْهـــدُ
****
مَهْلاً ولا يخدَعْكِ حزنُ ملامحـــي == وشُحوبُ لوني وارتعاشُ عواطفـي
وإذا لمحتِ على جبيني حَيْرتــــي == وسُطورَ حُزني الشاعريِّ الجارفِ
فهو الشعورُ يُثيرُ في نفسي الأَسى== والدّمع في هول الحـــياةِ العاصفِ
وهي النبوَّةُ لم تطِرْ فتمــرّدَتْ.
هل يعتبر كتاب بعلوج مؤسّسا لنوع من الكتابة للزّمن المستقبل؟، هل استطاعت العولمة و من خلالها تكنولوجيا الإعلام و الاتّصال أن تخلق لنا جيلا جديدا يفكّر بطريقة مختلفة، يكتب بطريقة مختلفة، يبدع نصوصا جديدة و فصوصا قادرة على الإبهار في كلّ زمان ومكان، في الهنا والآن. هل هي ثورة كتابة يجسّدها شباب حالم بغده ثائر على الأطر الكلاسيكية الخانقة لتصوّراته في الحياة و أحلامه؟، هل هي كتابة تنطلق من العدم لبناء تصوّر و رؤية تتجاوز و تجتاز الرّكام الثابت السّاكن غير المتحرّك؟. أعتقد أنّها ثورة كتابة حقيقيّة، كتابة حداثية ذاتية، عقلانيّة، عدميّة. هكذا قرأت يوسف بعلوج، و هكذا أحاول تقديمه مثلما قدّم نفسه على الرّغم من إصراره في كلّ مرّة على القول بأنّ الكاتب سيبقى مجهولا.
3.
في جبين التّقديم يفتح الرّوائي الليبي محمّد الأصفر شهيتنا على القراءة حيث يدعونا لذلك متسائلا:" وردة وكتاب.. أم شجرة و مكتبة؟"، بعدها يبدأ الأصفر في حلحلة الغموض و تحريك الفهم في الذّهن فيقدّم لنا الكتاب الذّي استثمر صاحبه في التجوال كأداة للحصول على المعلومة من مصدرها، حيث اعتمد بعلوج على التجوال كأداة للتعلّم، و استطاع أن ينقل لنا بعض تفاصيل الثورة التونسيّة في وقت كان كثير من النّاس يبحثون عن سبر أغوار هذه التجربة و البحث في جوهرها و تركيبتها.. الأصفر بلغة رصينة مبينة استطاع أن يصف لنا يوسف بعلوج و هو ينقل إلينا عبر كتابه خبرة أراد من خلالها أن يعبّر فيها عن ولعه بالسّفر، و حبّه للمغامرة، و قدرته على الاستكشاف، و الأكثر من هذا كلّه التوجّه نحو تأسيس نوع من الكتابة الجديدة المرتكزة على الحدث الآني ( الهنا و الآن)، حيث تخلّص بعلوج من عقدة الإنسان الملتبس بمعانيه و قيمه السّامية، حيث أراد من خلال كتابه أن يشير و يجيب في نفس الوقت عن أسئلة الرّاهن: ماذا نريد اليوم؟، وماذا نريد أن نصير غدا؟..
4.
أيّام في تونس قبل و بعد الثورة تعتبر دعوة للغوص في الحاضر من خلال تجربة الشّك، هو انتقال بين الأزمنة بكثافة حضور في الحاضر كما في المستقبل، هو ترجمة لشجاعة كاتب شاب لا يريد أن يلبس ثوب المثقف الجبّان المختفي وراء الوهم ولزوم الدّور.. كأنّي بيوسف بعلوج يقول ها هو كتابي إليكم أيّها المثقّفون، أدركوا قيمة المثقف الحقيقي الذّي يختار سلاح الفكر و منطق الحسم و الحكم على الأمور على الرّغم من صعوبة ذلك، اكتبوا بحريّة أو اصمتوا أيّها العاجزون عن التعبير في زمن لا يحتمل سوى الثّورة.. إنّ القارئ لهذا الكتاب سيكتشف أنّ الكاتب لم يكن إنسانا عشوائيا بل العكس من ذلك تماما كان دقيقا، منظّما، عارفا لما يريده، قادرا على إيصال أفكاره بطريقة سلسة، قويّة، قادرة على معانقة أعماق القرّاء و تحرير حياتهم من قيود المنع و التحريم...
5.
في جبين السّياسة يقول مواطن تونسي:" إذا كانت السّياسة هي فنّ الممكن في الدّول الأخرى، فقد كانت في تونس فن المستحيل الذّي جعله البوعزيزي فنّا ممكنا"[v]، كأنّ الكاتب يحاول أن ينقل إلينا معنى متعلّقا بالتّاريخ، حدود الثقافة و الصّراع السّياسي، هذا ما وقفت عليه و أنا أحاور جبين التّدوين بعد جبين السّياسة: "أيّ شيء سيبقى من تاريخ البسطاء لولا التّدوين"[vi] ، هكذا قال المُدوّن المجهول، المُدوّن الغاضب و الثائر الذّي طوّر نوعا من الثقافة الإبداعية المنبثقة من الواقع، من الفعل، المتطوّرة بتطوّر صاحبها الذّي يتكوّن باستمرار. في الأخير و في جبين الكتابة يعترف بعلوج مُصدّقا لقول كافكا:" الكتابة هي انفتاح لجرح ما"[vii]، فهل سيلتئم هذا الجرح لدى بعلوج في المُستقبل أم سيبقى منفتحا دائما على إبداع لا ينتهي؟، هل سيخرج الكاتب المجهول يوما ليعرّف بنفسه، و يضع قناع الاستتار جانبا؟، هل سيبدأ يوسف حُلما جديدا فيكتب لنا صفحات كتاب آخر لا يقلّ روعة عن هذه التّجربة؟، هل سيبادلنا يوسف احتفاءه بذكرى أحداث هامة، طقوس ما، وقائع و صور؟، أم أنّ الكاتب سيبقى مجهولا وفيّا لمبادئه و قناعاته، مُصرّا على عدم الفهرسة حين يقول:" لو كانت الثّورات تخضع لفهارس مثل الكتب لكان بن علي صادقا في قوله(فهمتكم)"[viii]. هذه بعض الملاحظات التّي جالت بخاطري بعد تذوّقي لطعم كتاب يوسف بعلوج، و هي بمثابة دعوة منّي للتجوال عبر صفحات هذا الكتاب لاستكشاف الوقائع قبل و بعد ثورة الياسمين.
قلم: أحمد بلقمري
تعليقات
إرسال تعليق