التّاريخ،
حُدودُ الثقافة و الصّراع السّياسي في الجزائر*.
وأنا أشتغل على كتابة مؤلف في التّاريخ بعنوان: «بليمور، مدينة الحلم و سحر
الحقيقة[1]»،
واجهت مجموعة من الأسئلة، و وقفت حائرًا باحثا عن أجوبة لها، إنّها تلك المتعلّقة
بمعنى التّاريخ، وجدوى التاريخ في حياة الشّعوب، عندما أحسست بخطورة الموقف و
صعوبة المهمّة أدركت أنّني أقف أمام مسؤولية عظيمة، عرفت أنّني أمارس دور الإنسان
الباحث عن الحقيقة، و تذكّرت حينها جون بول سارتر و كلود ليفي ستروس فأبحرت في
كتابيهما الفريدين: نقد العقل الجدلي لسارتر و الفكر البرّي لستروس حينها فقط شعرت
بالطمأنينة و بدأت آفاق الفهم تتسّع أمامي.. ما زاد قلقي على الحقيقة هو أنّ كثيرا
من العقول في الجزائر اليوم ترفض الخوض في مثل هذه المسائل تجنّبا للصّراع، فما
معنى التّاريخ و ما جدواه؟، ما حدود الثقافة؟، و ماذا عن الصّراع السّياسي في
الجزائر؟.
1.
مشكلة التّاريخ:
يقول كلود لفيس تروس:«التاريخ
هو مجموعة متقطّعة مؤلّفة من حقبات تاريخيّة، يتميّز كلّ منها بتواتر(تردّد) خاص و
بترميز تفاضلي لما قبل و لما بعد»[2]،
يقودنا هذا الكلام إلى نتيجة مفادها أنّه من الصّعوبة بمكان تجريد التاريخ من
قيمته، على اعتبار أنّ التاريخ يشبه السّلسلة ذات الحلقات المتّصلة ببعضها البعض
بشكل يجعل انقطاع حلقة من الحلقات أو غياب إحداها يمثّل غياب جانب من الحقيقة
الكاملة، غياب جزء من الزّمن و ظهور خلل في التّسلسل. إنّ التّاريخ كعلم يسمح
بتسجيل الحقائق و البحث في تراتبيتها كما يحرص على تسلسلها مرحلة بمرحلة، و حدثا
بحدث. في المقابل يرى سارتر أنّ التاريخ يجب أن يكون بمثابة الأساس لإنسانويّة
دياليكتيكية، حيث لا يكون لأيّ فعل بشري أيّ معنى خارج هذه الدّائرة؛ كأنّ جون بول
سارتر يربط وجود الإنسان بوجود الديالكتيك، و وجود الديالكتيك يعني وجود التاريخ
ذاته، كأنّه يقول بضرورة حدوث حركيّة في التاريخ، و ضرورة وجود نقاشات مستمرّة في
الزّمان و المكان لتصحيحه و نقده في نفس الوقت، و هذا يعني وضع التجارب الاجتماعية
على محكّ الديالكتيك بوصفه منهجا قادرا على توليد التاريخ و صناعته. إنّ مثل هذا
الرأي يصنّف الشّعوب التي لا تاريخ لها في خانة «البشريّة المشوّهة و عديمة النّمو»[3].
نأتي الآن للحكم على فترة معيّنة من تاريخ الجزائر إنّها فترة ما بعد استرجاع
السّيادة الوطنيّة حيث الحقيقة المطلقة غائبة، و من عُرفوا بصنّاع التاريخ اختاروا
التكتّم و التعتيم على بعض الحقائق للحفاظ على التوازنات تجنّبا للصّراع. خرج
الشّعب الجزائري بعد قرن و اثنين ثلاثين سنة منتصرا على عدوّه، لكنّه كان مُنهكا،
فاقدا لأدوات كتابة التاريخ، غير مدرك لخطورة خسارة المعلومات لصالح فئة معيّنة
استحوذت على مقاليد السّلطة باعتبارها الوصيّة على الشّعب و القادرة على مواصلة
مسيرة البناء و التشييد ضمانا و حفاظا على مكاسب الثّورة، فظهر إلى الوجود ما يعرف
بمفهوم الشّرعيّة الثّورية. إنّ نشوة الحريّة و لذّة الانتصار أنست الشّعب فكرة
الدّفاع عن تاريخه فأوكلت المهمّة لمجموعة كان يُعتقد أنّها قادرة على حفظ الأشياء
و الاهتمام بها كما يجب؛ دون الدخول في صراع أو معركة مع الأوصياء استمرّت صناعة
التاريخ لمجتمع اعتقد لفترة من الزّمن أنه دون تاريخ نتيجة ممارسات المُستعمر
التّي خلقت فردا غير قادر على التمييز بين أنواع التاريخ، و غير قادر على الاكتشاف
أيضا.
2.
حدود الثقافة:
إن تحديد مفهوم الثقافة و
وضع حدود لهذه الأخيرة ليس بالسّهولة التي يتصوّرها البعض، لذلك كان من الواجب
التفكير في وضع تصوّر مترابط الاختصاصات لهذا المفهوم الهارب و المنفلت. إنّ
المجتمع البشري الممكن الوجود بفضل الثقافة فقط، هو ذاته المجتمع القائم على
الإبداع بمختلف تجليّاته على أعمال و سلوكيات النّاس. إنّ تراكمية التجارب
الاجتماعية و استمرارها عبر الزّمن تشكّل و تصنع الثقافات المختلفة، و هي بذلك تحلّ
المشاكل و ترسم القيم و تنتجها. ذلك لأن كلّ البشر تقريبا يملكون أدوات صناعة
الثقافة كاللّغة و المعرفة و الرّموز و الفن و الأنماط السّلوكية و المعتقدات
الدينية و التنظيمات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية. كلّ هذه الأشياء مجتمعة
قائمة على قانون التغيّر و الحركة. إنّ الاقتراب من مفهوم الثقافة يساعدنا على
الاقتراب من حدودها و يمدّنا بالقدرة على فهم هذه الحدود كما يمدّنا بالقدرة على
التأويل و التحليل، فما حدود الثقافة عندنا في الجزائر؟. هناك ما يعرف بالظّواهر
التي تتشكّل ثقافيّا في الجزائر على الأقل منذ نهاية الفترة الكولونيالية و بداية
التاريخ الحديث للجمهوريّة الجزائريّة المستقلّة و ذات السّيادة. لذا من المفيد أن
الحديث عن فكرة الوعي الجمعي المشترك لدى الشّعب الباحث عن الهويّة و الانتماء بعد
أمد طويل من سياسة " فرّق تسد" الاستعماريّة. على الرّغم من إمكانيّة
تفحّص و تفقّد حدود الثقافة من خلال المعتقدات و أسلوب الحياة و العادات و الطقوس
و نظرة الناس إلى الآخر(الآخر القريب- الجماعة الواحدة-، و الآخر البعيد – العالم
ككل-) إلاّ أنّنا نصادف مجموعة هائلة من الأسئلة الباحثة عن إجابات لمجتمع لا يزال
يبحث عن نفسه بعد تعفّن الجرح و حرب الإبادة التي طالته. إنّ آثار الممارسات
الاستعماريّة لا تزال واضحة للعيان في التجارب الاجتماعية للجزائريين، حيث يفتقد
الناس للقدرة على التموضع و فهم الخيارات التي يريدونها بالنّظر لأحداث الماضي و
الحاضر و المستقبل. لا يزال الشكّ و التردّد السمتين الغالبتين في خبرة الجماعة،
لا يزال المجتمع غير قادر على تحديد رؤية واضحة للموضوعات المادية و الرمزية التي
يرى الناس بأنّها تستجيب لطموحاتهم و تحقق آمالهم، رؤية تدفع الفرد نحو العمل على
تجسيدها، و الكفاح من أجلها لأنّها ذات قيمة و تستحقّ ذلك فعلا. نجد أنفسنا هنا
أمام مجتمع يفتقد للثقافة المؤطّرة للسياق الذّي تحدث فيه السياسة، لهذا لن يتحقّق
أيّ إصلاح مروم دون الالتفات إلى هذه الجزئية المهمّة، و لن يحدث أيّ تغيّر في
النظام الاجتماعي دون وضع تصوّر و فلسفة واضحين، نعني بذلك وضع تصوّرات تخطيطية
لأفراد الجماعة الذّين يشكّلون في النهاية مجتمعا.
3.
الصّراع السّياسي في الجزائر:
عرفنا من خلال ما سبق
أهميّة التاريخ و الثقافة في حياة أيّ مجتمع من المجتمعات، و سنتحدّث هنا عن علاقة
التاريخ و الثقافة بحدوث الصّراع لا سيما ما يعرف بالصّراع السياسي، كما سنحاول
وصف و رسم حدود الصّراع السياسي في الجزائر.
نعرف أنّ الجماعات السياسية
يحدّدها عنصران مهمّان: الإحساس بالهويّة المشتركة و المصير المترابط أي المصالح
المشتركة و الأصل الواحد، و هناك أيضا ما يعرف بالتوتّرات الثقافية و الاجتماعية و
السيكولوجية التي تؤدّي إلى ظهور الصّراع بين أفراد الجماعة الواحدة و بين مختلف
الجماعات. إنّ الارتباطات المختلفة و الانتماءات المتعدّدة تصعّب من عمليّة
الاتّحاد و التوافق، لذلك يظهر الصّراع بين أعضاء جماعة السّلطة ذات الانتماءات
المتعدّدة، على العكس من ذلك كلّ ما كانت الروابط متقاطعة كلّما ازداد تماسك
الجماعة و استطاعت أن تقيم سلطة شرعيّة قادرة على حل النّزاعات و حسم الصّراعات في
بدايتها في صالح الجماعة. عندما ندرس و نعيد قراءة تاريخ الثّورة التحريريّة سنجد
عديد المسائل غير المتوافق عليها بسبب اختلاف الانتماءات و تعدّد المشارب الإثنية
و السّياسية ما أثّر نسبيّا على بعض القرارات الهامّة في تاريخ الثّورة مثل قرارات مؤتمر الصّومام التي فجّرت الصّراع
و فتحت حدود الخصومات السّياسية و ساهمت في بروز الزّعامات. للأسف الشّديد استمرّ
الصّراع على السّلطة في الجزائر إلى ما بعد استرجاع السيادة الوطنيّة و هو ما هدّد
مسيرة البناء و عطّل ديناميكيّة الاتحاد و التوافق. يجب أن لا نخجل من أنفسنا إذا
ما تعلّق الأمر بالحديث عن الصّراع السّياسي في الجزائر، علينا أن نقدّم الحقائق
كما هي فلا نغطّي عليها و لا نكذب على أنفسنا لأنّ الأخطاء الفادحة تؤدي إلى هزائم
فادحة.
إنّ الجزائر لم تصل بعد إلى مصاف الدّول المتقدمة على الرّغم
من امتلاكها لمؤهلات و مقدّرات كبيرة جدّا لسبب و حيد يجب إعادة النّظر فيه إذا ما
أردنا التّقدم و إحداث التنمية و الوصول بالجزائر إلى المكانة التي تستحق بين
الأمم؛ علينا أن نحدّد المفاهيم و نضبط المتغيّرات فنهتم بالثقافة باعتبار وثاقة
صلتها بالسّياسة، و باعتبارها محدّدة للهوية ( تربط بين الهويّة الفرديّة و
الهويّة الجماعية)، و باعتبارها تضع الحدود و تنظّم الأعمال ضمن الجماعات(بين
أفراد الجماعة الواحدة) و بينها(بين الجماعة و الجماعة)، كما أنّ الثقافة تساعد
على أخلقة الفعل السياسي بما يضعف موقف جوقة المصالح أمام تطلّعات الشّعب.
*نشر بصحيفة
الجزائر نيوز. العدد: 2516. 22 أفريل 2012
تعليقات
إرسال تعليق