غير أننا حتما سنتبع اعترافنا بتساؤل نشعر مسبقا بضرورة التفكير جيدا للإجابة عليه، سنستفهم دون أدنى شك حول دور الشباب في المرحلة القادمة والتي نسلم أيضا بصعوبتها عن سابقتها ، نستفهم بحيرة عن ما سيلقى على كاهل الشباب العربي الثائر بالأمس في عملية البناء وتسيير المراحل اللاحقة بالغد؟ وفي ظل مخلفات سلفهم طبعا على افتراض بسلبية الوضع الذي تطلب هذه الثورات !! قد يلمس القارئ من هذه الإشكالية تشاؤما لدينا ، لكن وعلى العكس من ذلك فهو السؤال الأوْلى بأن يناقش بين شباب الثورات الناجحة في بلداننا العربية ،ولعل أقل دافع لذلك هو مواصلة النجاحات حفاظا على ثروة الثورة أو الإيمان بأننا لازلنا في مستهل المسير الذي يؤتى أكله بعد حين ، كما من جهة ثانية أحب أن يكون سببا للفت أنظار المتطفلين وكذا المحتكرين للأدوار من غير الشباب بضرورة العمل بـ "فا فسحوا يفسح الله لكم..." وهي إشارة للتذكير بحتمية ترك المجال و إشراك جيل الشباب في كل ما يدعوا للإشراك اليوم ألا وهو "كل شيء".
منذ حادث البوعزيزي في أواخر شهر ديسمبر من العام الفارط ،تأكدت العديد من التوقعات وكذا الفرضيات المشهورة كتلك التي تقول "بالهدوء الذي يسبق العاصفة" ،و"اشتداد الظلمة دليل على قرب طلوع شمس الصباح..." وغيرها كثير، فقد مر جيل الشباب العربي منذ أن عرفت بلدانه المختلفة مفهوم الدولة المؤسساتية ، مرّ بحالة من الاستبعاد الذي وضعه أسفل سافلين استناد الى عدة مسلمات بطل التنظير بها، وخرافات ذهب مفعول الإيمان بها بعد أن يئسنا من تكرارها منذ منتصف القرن العشرين، وبالتالي وجب الاعتراف كما قال أحد المفكرين "بأنه طوال العقود الماضية قد أخطأنا التحليل والتقدير لهذا الجيل، حينما ساد بيننا انطباع سلبي عنه ...أنه لا مبال..عازف عن المشاركة...متشبع بقيم الاستهلاك..ومنغمس في الغرائزية والنفعية بعيدا عن الجدية و الإنتاجية..." وحتى إن كان هذا الظن غير إثم ، فإنه كان الأولى بهؤلاء أن يعملوا على تغيير الصورة بكل جهد نحو الأفضل لا أن يرسخوها في شكلها النمطي بحجة أن القلق كان مشروعا بناء على ضعف النظم التعليمية وتراجع البرامج المهيكلة لهؤلاء الشباب .
إن تراكما لمثل هذا الوضع دفع بطريقة مفاجئة وبسرعة قياسية لتغيير الصورة النمطية الظالمة لهذه الفئة متجاوزة الركود والعجز والأهم من ذلك تجاوز تقليدية أساليب التغيير العنيفة التي عهدناها أو ما خلدته الانقلابات العسكرية التي أوهمت بفردانيتها في قلب أنظمة الحكم، بل قام الشباب العربي في الثورات البيضاء بما لم تقم به تلك الانقلابات بعد أن أرسى مبادئه على أسس المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان ...، ولعل اللافت في هذه النقطة بين مميزات حركات الشباب أنها لم تكن مطلبية تافهة أو محصورة في تحسين الوضع المعيشي وإن بدت في بادئها كذلك ، إلا أنها صارت حقوقية متجاوزة حركات المجتمع المدني وقياداته ،فضلا على استقلالية فكرها ،أي أنها لم تخضع لسنة الإيديولوجيات المتراجعة ، وكانت ما كانت مستقلة في فكرها ،لم تسر تحت مظلة أي من التيارات أو الأقطاب المتجاذبة سياسيا أو فكريا ،لتذهب بعيدا في تأكيد مبادئ محترفة بنت عليها تحركاتها وحلت "القيـم " محل الإيديولوجيا ، ولعل أهم تساؤل يتبادر إلى الذهن هنا هو حول مدى التزام هذه الحركات الشبابية بمبدأ الاستقلالية والقدرة على العمل بعيدا عن أوساط الأحزاب القائمة، وهل ستمضي في مرحلة البناء والإصلاح اللاحقة خصوصا في المشهد السياسي، مستعصية على الواقع الحزبي والجمعوي المؤدي لهذا من جهة، ومدى نجاعة ذلك في ظل افتقادها للخبرة اللازمة في هذه المهمة من جهة ثانية، وهي النتيجة الحتمية التي أوصلت إليها سياسة التهميش والاستصغار ما قد يسير بحركات حملت مطمح التحول إلى الاستمرار في شكلية الاحتجاجات التي تؤدي الى عدمية الموقف وتعطيل الإنتاج اليومي ...
بين هذا وذاك بات من المؤكد فوق كل تأكيد أن شبابنا العربي اليوم حقق أكبر نجاحاته في التغيير بفرض نفسه كقوة فاعلة فوق كل فاعل في المجتمع كان ما كان، ما يتطلب أخذ هذه القوة فوق كل اعتبار في إعادة ترتيب الأدوار وتوزيع المهام في بناء المجتمعات ، طبعا لصالح هذه الشريحة فقد أمست خريطة الهرم والقاعدة خصبة أكثر من أي وقت مضى لزرع أعضاء فتيه في الجهة العلوية وإفساح المجال أمامها في تحقيق التغيير المنشود ، وعلى غرار الحتمية المنتجة لهذا السلوك فإن معطيات جديدة على المستوى الدولي توحي أو تؤكد بوضع قيادة العالم بأيدي الشباب ،وهو ما تثبته ظواهر عدة في مجال إدارة الشركات والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية كما داخل المخابر العلمية ومعامل الاختراع ، وبالتالي فإن فكرة الإصلاح في المرحلة القادمة ستبدأ ولا بد بوضع الشباب على المحك لا كما كانت تستغل سابقا في ترسيخ نظم الحكم البائدة ودعم أزمة الاغتراب لدى الشباب ،كما أن تحقيق هذا المسعى لابد وأن يتبعه كذلك نظام عمل حديث يسعى لمحو صورة التشاؤم وإحلال مكانها الشعور بالمسؤولية تجاه نهضة الأمة مع الدعم اللازم بالخبرة والمتابعة المعقولة.
حان الوقت إذا لوقف سياسات التجاهل التي طالت شباب الأمة منذ زمن بعيد و أدت إلى أزمات عدة على رأسها الأزمة الثقافية كنتاج لتدهور أنظمة تعليمية واجتماعية منتهية الصلاحية ،وأزمة اغتراب حقيقية كنتاج لصدام الشباب بالأنظمة البيروقراطية وأنماط السلطة غير الديمقراطية التي لا تقتصر على تهميشه فقط ، بل وتعمل على حصر دوره في الخضوع و الالتزام ما دفعه للشعور بالعجز وعدم القدرة على تحقيق ذاته حتى .،إلى ما لحق ذلك من نتائج لم نحمد عقباها ،كالهروب عبر القوارب ،والاستسلام لواقع مؤسف تفرضه الظروف...بحثا عن مجتمعات جديدة تفتح مجالا لتحقيق الطموحات وتلبي المطالب الحياتية .
أما اليوم فنعتبر أن عهدا كذاك قد ولى، ليحل محله عهد الشباب العربي المتشبع بأساسيات التعاطي مع عصر العولمة وبات عليه بعد أن يتسلم المشعل و يعمل على صياغة جديدة لقوانين الانتقال السلس من الشباب الى الشباب ،ويدخل ضمن هذا ترتيب وتنظيم كل الهياكل الموجهة والمكونة للشباب في الأجيال اللاحقة لهم لتكون خير خلف لخير سلف ،بات علينا معالجة أنظمتنا التربوية وسياساتنا التعليمية بما يبنيها على الاعتزاز بثوابت الأمة ومبادئ الحرية وثقافة الإشراك والديمقراطية ، بات علينا وضع ثقافة متوازنة تراعي التراث والتاريخ الوطني ،وتربي الحس القومي وتسعى لمواكبة الثقافات العالمية وتكون أكثر انفتاحا على العلم والتكنولوجيا والفلسفة المعاصرة وروح الكشف والاستكشاف ،هنا سنكون حتما أغنياء عن كل تلقين خارجي ،وسيعزف الشباب بدل العزوف عن المشاركة السياسية والمجتمعية ،سيعزف عن تبني ثقافة الغير واستنساخها في شكليات متعددة ،ولن يبحث عن الحقيقة خلف الإعلام الخارجي بعد أن يكتسب الثقة في إعلامه ،وسيضبط الشباب بالتزامهم إيقاع الحياة الجديدة بعد أن صارت معارف الأمس تفقد ملائمة الواقع الجديد والمستجد ،وقد ثبت" أن المجتمعات التي تتعرض للتغير التقني السريع ،لا يعود الآباء فيها يملكون ما يقدمونه لأبنائهم" .
قلم : عبد الله شوتري . باحث في العلوم السياسية
قلم : عبد الله شوتري . باحث في العلوم السياسية
تعليقات
إرسال تعليق