رَفِيق
ألفيته عند قرية النّمل عابثا، حاملا عودا رقيقا دقيقا دقّة ساقيه، يحاولُ أن يقضي على آخر نملة في مساكنها.. كان عنيفا، موغلا في الإيذاء، متفقّعا للشرّ.. هناك فقط عرفت لمّ يسمّيه أهل الحيّ بالإرهابيّ !.. لقد أطلقوا عليه لقبا أكبر من سنّه لا يطيقه جسده و لا عقله.. كلّ النّاس يخافون طيشه و تهوّره رغم سنّه الصّغيرة.. لا ترى رفيق إلاّ و هو يحمل الحجارة يرشق بها الرّائح و الغادي.. اقتربت من ابن الخامسة و قد انتهى من طقس سبّ الذّات الإلهية، كان مرحا، فرحا بصنيعته، فخورا بفعلته.. كان يعرفني، لذلك و قبل أن أصل إليه بادرني بالحديث، ملوّحا بالولاّعة:- يا أحمد قتلتهم كلّهم، لن أدع نملة واحدة على قيد الحياة. الآن سأشعل النّار عليهم، سيكون مشهد النّمل محترقا جميلا جدّا، بعدها سأنتقل إلى مكان آخر و أفعل نفس الشيء مع النّمل الكبير.
أطلقت موجة من الأسئلة أمام هذا الموقف الصّادم !، ما به هذا الرّفيق؟!، من قتل البراءة في هذا الطّفل فحشا فكره و عقله الصّغير بهذه الأفكار المميتة؟!... لم يعبأ رفيق بوجودي معه، كان لا يزال يفكّر في إيذاء النّمل، بدا لي طفلا ساديّا، خيّل لي بأنّه طفلٌ من القرون الوُسطى.. حدّثت رفيق فكان يرمقني بنظرات ملؤها السّخريّة، كان مقتنعا تماما بما يفعله، بل بدا لي رجلا سيئا مكتمل الرّجولة الخاطئة مع فارق بسيط، كان ضحيّة.. أتراها تربية والدته المقهورة التي أهملته؟!، أم تراه أبوه السكّير الذي يدخل البيت كلّ ليلة مخمورا، فيرسل تراتيل من الكلام البذيء الفاحش اللّعان، و لا يبرح أن يوسع زوجته بالضّرب المبرّح على مرأى من رفيق.. أذكر أنّ رفيق قال لي يوما: أنا لا أبكي !، فقلت له: لم يا رفيق؟، قال: لأنّ والدي كلّما ضرب أمّي و وجدني أبكي، يقول لي: لا تبك يا رفيق فالرّجال لا يبكون، لكنّه كاذب و أنا لا أصدّقه، أراه يبكي دائما كلّما شرب الخمر.. حاولت أن أكلم رفيق، لكنّه كان مصرّا على القتل، على الهدم، على التخريب.. قلت:- يا رفيق، هل تقبل أن أقوم بتخريب بيتكم، ورميه بالحجارة؟.
أجابني رفيق بلغة الكبار:- سأفعل نفس الشيء، و أرشق بيتكم بالحجارة.
كان عليّ أن أقنع رفيق بأن ما يفعله غير جيّد، فطلبت منه أن يشاركني اللّعب، قد تكفي بعض الدقائق لترميم كثير من الأخطاء، فكان جوابه: - هل سنذهب إلى قرية النّمل الكبير؟.
قلت في نفسي:- اللعنة، يبدو أنّني سأتعب كثيرا في إعادة تربية هذا الطفل الشقيّ.
قلت لرفيق: - أريد أن أطعم العصافير.
قال: - والنّمل؟.
قلت له: - النّمل سنغذيه لاحقا، سنبدأ بالعصافير.
حاولت أن استدرج رفيق حتى ينسى الأمر لكنّه فاجأني حين سأل عن النمل. يبدو مؤشرا جيدا!. انطلق رفيق مسرعا نحو المنزل، أحضر قطعة كبيرة من الخبز و قارورة من الماء.. شعرت كما لو أنّ رفيق قد دخل الإسلام، كانت صورته وهو يفعل الخير شبيهة بصورة من أسلم حديثا.. أخفيت ضحكتي عن رفيق حتّى لا يشعر بأنّني أضحك عليه، فالشّر عنده ليس ببعيد، و الحجارة قدّامه و يستطيع أن يتسلّح بها بسرعة خاطفة، فيهدم بنياني و يكسر رباعيتي .. كان طفلا من عالم آخر. بدأنا بتغذية العصافير، لم يصدّق رفيق بأن العصافير لم تهرب منه كعادتها، لقد كان يحلم بذلك، قال لي:- أريد ان أمسك عصفورا. قلت: - لتعذّبه؟..
قال: - لا، لا سأقوم بتربيته..
قلت له: - لا تفعل يا رفيق، لديه أمّه، وهي ستفعل ذلك..
انتكس رفيق كما لو أحسّ بشيء، ثم قال لي مغيّرا دفّة قارب حديثنا:- هل تعلم يا أحمد؟.. أنا أجمع النّقود في بئر.. في كلّ يوم أنهض باكرا و أجمع كثيرا من النّقود.. أريد ان أصبح دركيا، أريد ان أحمل السلاح، فيقولون عنّي: لقد جاء العسكريّ.
قلت له: - هل تريد فعلا أن تصبح عسكريّا؟.
قال: - نعم.
قلت له: - وماذا ستفعل بالنّقود؟.
قال: - سأشتري لأمّي فستانا حتى تستطيع الذّهاب إلى العرس، و اشتري لها حليّا و ألبسة كثيرة، سأعطيها كثيرا من النقود، لأن البئر التي أجمع فيها أموالي ستمتلئ قريبا..
قلت: - و والدك، ألن تعطيه شيئا؟..
أجابني بسرعة و دون تفكير: - لن اشتري له شيئا، لأنّه في العيد السّابق لم يشتر لي شيئا..
قلت: - لكنّه والدك؟!.
ردّ رفيق: - حسنا، سأشتري له جوربا فقط، لأنّه اشترى لي جوربا.
حاولت أن أصحّح الموقف فطلبت من رفيق أن يقسم النقود بينه وبينه والديه بالتساوي، سارعت لاحتواء المشكلة، قائلا:
- يا رفيق، هل تعلم ماذا قال لي ذلك العصفور الصغير؟.
قال: - أيا منهم؟.
قلت: - ذاك الذي يرتعد من البرد فوق الشجرة، انظر.
قال: آه، حسنا لقد رأيته، ماذا قال؟.
- لقد قال لي بأنّه يحبّك، و هو يريد منك أن تعتني به كلّ يوم.
كاد رفيق يطير من الفرح، وقال: - سأملأ البئر بالخبز، و أفرغها من المال، سأعتني بعصفوري جيّدا حتّى يكبر..
قلت له: - يا رفيق.. أنا أحبّك لأنّ الله يحبّك، و الله يريدك أن تعتني بالعصفور حتّى يحبّك.
قلم: أحمد بلقمري
هذا الغلام قتله البغض ، ولن يحييه غير الحب...
ردحذفالحب و العطف و الحنان، متى نتعلم تربية الأطفال؟!!.
ردحذف