رِحْلَةُ
البَحْثِ عَنِ السِّيَادَةِ: مَنْ يَحْكُمْ، مَنْ؟..
قراءة في كتاب عبد الرزّاق بوكبة «نيوتن
يصعد إلى التّفاحة-تأمّلات في المشهد الثقافي الجزائري-».
قلم: أحمد بلقمري
![]() |
صورة غلاف الكتاب |
في الحقيقة مذ تعرّفت إلى عبد الرّزاق بوكبّة في كتابه "من دسّ خفّ
سيبويه في الرّمل؟"، و أنا أحرص على تتبّع و محاورة إنتاجه الأدبيّ
الغزير؛ فمن "أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض"، "جلدة الظّل"،
"من قال للشّمعة: أف؟"، "عطش السّاقية"، "تأملاّت
عابر للقارّة"، "نيوتن يصعد إلى التّفاحة"، إلى "ندبة
الهلالي: من قال للشّمعة: أح؟"، أجدني أمام تجربة راقية جدّا للمبدع بوكبة،
صاحب الحضور المتميّز في المشهد الثّقافي الجزائري، و صاحب النّصوص العابرة
للزّمن، والمفتوحة على قراءات واسعة لما تحتمله من عمق و فكر.
الكاتب القادم من الهامش إلى المركز، من قرية أولاد جحيش ببرج بوعريريج إلى
الجزائر العاصمة يبدو مقتدرا على اقتناص اللّحظة، وإحالتها إلى نصوص قادرة على
إثارة الدّهشة والتّساؤل لدى القارئ. ربّما هي روحه الشّعرية التّي أبانت عن قدرة
هائلة لدى بوكبة في التكثيف و التّحريك، أم هي بيئته الأولى التي نشأ فيها تفجّر
رغبته، و انبعاثها إلى سطح الوعي.
اقرأ أيضا"راني فرحان" يا فخامة الشّعب !.
اقرأ أيضا"ماني" أو فخامةُ الشّعب الجزائري
شيفرة عنوان الكتاب: لماذا نيوتن، فعل الصّعود و التّفاحة؟..
إنّ تفكير بوكبة في عنونة كتابه قد احتاج إلى تفكير عميق و تدبير دون شكّ،
ذلك لأنّ تسمية المُؤَلّف هي عتبة الدّخول الأولى، و هي عتبة فهم النّص و تحليله
بالنّسبة للمتلقّي، كما أنّها ذات دلالة هامّة على العوالم المعرفيّة و الثقافية
التّي قدِم منها المؤلّف.
نجد عبد الرزّاق بوكبة قد
أشار في عنوان كتابه إلى تجربة نيوتن مع التّفاحة، و هي إحالة ذكيّة إلى ضرورة
إعمال المنهج الاستقرائي لفهم المشهد الثّقافي الجزائري،
و هي دعوة المثقّفين الجزائريّين إلى التّساؤل عن المصير، و البحث عن أجوبة لكلّ
الأسئلة التّقليدية المتعلّقة بالفعل الثّقافي: ماذا، كيف، من، أين، و أيّ...
و قد شفع المُؤلّف كتابه بعنوان فرعي ليشرح و يفسّر ما
قصده في العنوان الأصلي، و بذلك يكون بوكبة قد أزال الغموض و التّكثيف، و وجّه في
آن القارئ بخصوص كيفيّة القراءة.
بقي أن نشير إلى أمر مهمّ تعلّق بفعل الصّعود إلى
التّفاحة، و هو فعل قصد من خلاله الكاتب تحفيز المثّقف الجزائري على النّهوض
بالعبء الثّقافي، و الارتقاء بدوره إلى فضاءات أرحب، و مستويات تليق بصنّاع
الحضّارة وموجّهيها؛ و بهذا يكون بوكبّة قد وجّه رسالة ضمنيّة إلى جميع المثقّفين
الجزائريّين مفادها أنّه على المثقّف ألاّ يكتفي بدور المتفرّج، حيث ينبغي عليه أن
يكون ملاحظا جيّدا لسيرورة الأشياء و التّجارب الاجتماعية، و ناقدا موجّها
للإنسان، و مفكّرا باحثا عن المعنى و سرّ الوجود. فعلى المثقّف الصّعود إلى
الثّقافة كفعل مستمر في الواقع، و ليس انتظار جَلْبَبَتِهَا لهُ كمفهوم، فلا تعدو
إذ ذاك سوى أن تكون سجلا تجاريا، أو صفة لموصوف.
بأيّ لغة يكتب بوكبة؟..
هذا هو السّؤال الذّي يتبادر إلى ذهنك أوّل ما تقرأ لعبد الرزّاق بوكبة، و
هو سؤال يتكرّر معك كلّما تناولت نصّا من نصوصه، أو مؤلّفا من مؤلّفاته. هذا
الكاتب المبدع يتحرّك بسهولة على رمل اللّغة، فهو ينتقل من اليومي إلى الميتا لغوي
بأريحية كبيرة، بل قد تصيبك الدّهشة و أنت تقف أمام لغة قريبة من اللّغة الصّوفية
العرفانية، حيث التّلاقي مع أسلوب الكتابة عند الشّيخ الأكبر ابن عربي، و التّقاطع
معه في الزّمن (زمن السّلاطين)، وكأنّه التّناص هنا بين سلاطين بوكبّة و فصوص
الحكم لابن عربي؛ إنّها اللّغة المنطلقة من ساحات اللاّوعي، المُحلّقة في سماء
الوعي بكلّ حريّة، و جرأة. و الفصوص كما نعلم هي كلمات إلاهيّة في كلمات محمّدية،
أمّا السّلاطين في كتاب بوكبة فهي عبارة عن كلمات ثقافية في مشهد ثقافي.
كتب بوكبة عن ستّ و ستين
سلطانا في مؤلّفه، بدء بسلطان الفنّ و انتهاء عند سلطان الانتقائية. هذه السّلاطين
كانت بمثابة نزوات سطوة(Des
pulsions d’emprise) تبحث عن الإشباع، و الإفلات من
الرّقابة انطلاقا من اللاّوعي، و هي بذلك تقترب من مفهوم التحكّم/الامتلاك،
فالسّلطان يحكم و يتحكّم ويمتلك في نفس الوقت، و هذا كلّه يبدو كاستهياء لحالة
نفسيّة ما. إذن، يبدو بوكبة كالقائم بالتّشريفات في ديوان سلطان بل سلاطين تحكم
مشهدنا الثّقافي اليومي، حيث يقوم بوكبة بمساعدتنا في المرور إلى السّلطان عبر
الإجراءات البروتوكولية المتمثّلة في عبور عتبة الدّخول و الخروج، كما يقوم بدور
الشّاهد المُدوّن، الكاتب في ديوان السّلطان، و هو يعود بذلك لإحدى الوظائف
المهمّة في حياة المثقّف، ألا وهي وظيفة التّدوين و الشّهادة على الأحداث كما هي
في الواقع.
نجد عبد الرّزاق بوكبة في
مؤلّفه يكتب عن سلطان ما ثمّ يعود للكتابة مرّة أخرى، و كأنّه يشخّص الحالة ثمّ ما
يلبث أن يلاحظ شيئا ما على تطوّرها، فيصف تشخيصا جديدا أو يقدّم ملاحظة من زاوية
مختلفة، و هو بذلك يدعونا للتّساؤل حول طرق الشّفاء، و التنبّؤ بتطوّر الحالات،
كما يجعلنا نتأمّل مثله هذا الذّي يحدث عندنا؛ إنّه الواقع بكلّ تفاصيله التّي
نتجاهلها على الرّغم من أهميّة هذه الأخيرة في حياتنا.
مَنْ يَحْكُمْ، مَنْ؟..
هذا هو التّساؤل الأهمّ في كتاب بوكبة، هل نحن الذّين نحكم سلاطين الفن،
الكتابة، الارتجال، التخريب، المهارة، الكوابيس، العنف، و غيرها، و نستعملها لنكون
سادة الحياة؟، أم أنّ هذه السّلاطين هي التي تحكمنا، و تستحوذ على لغتنا، و فنّنا
و معارفنا، و معتقداتنا سواء كانت دينية أو فكريّة، و تنظيماتنا الاقتصادية و
الاجتماعية و السّياسية؟.
الحقيقة أنّ مختلف السّلاطين سيطرت على أفعالنا، و قست في بعض الأحيان على
أحوالنا حتّى ضيّعنا بوصلة اتجّاهنا و مسار تقدّمنا؛ لذلك يدعو عبد الرزّاق بوكبة في
كتابه المثقّفين الجزائريّين إلى ضرورة التأمّل و الاشتغال على بناء تصوّر أو عدّة
تصوّرات بهدف الخروج من الأزمة الثقّافية التّي نتخبّط فيها، و التّي صارت شبيهة لحالة
الشّقاء و البؤس الثّقافي الذّي يقود إلى الإحباط، و من بعده اليأس، و النّزوع نحو
الانتحار الجماعي لأمّة لها تاريخها القديم و المعاصر.
بوكبة أهدى كتابه«إلى
المثقّفين الجزائريّين الرّاحلين في طريق الحقيقة منذ الحركة الوطنيّة إلى يوم
الاستقلال هذا»، و هو إهداء مُلغّم بالسّياسي، و يحتاج إلى قراءة لوحده. و أنا بدوري
أدعو قرّاء هذا المقال إلى الاقتراب من أسس المشروع الفكري للكاتب المبدع عبد
الرّزاق بوكبة، من خلال كتاب «نيوتن يصعد إلى التّفاحة-تأمّلات في المشهد الثقافي
الجزائري-».
تعليقات
إرسال تعليق